عطية مسوح*
كم ظلمنا أناساً ونحن لا نكنّ لهم إلا الحب والإكبار! وكم زعزعنا عرشاً ونحن لا ننوي إلا ترسيخ أركانه! يحدث هذا يومياً، وربما فعله كل منا في بيته أو مكان عمله. إن ما سنتحدث عنه هو أكبر مما يحدث في البيوت أو أماكن العمل، إنه يتعلق بالفكر وبالمفكرين الذين ظلمناهم ونظلمهم كل يوم من دون أن ندري ذلك أو نرغب فيه. يتجلى هذا الظلم بتلك الصورة الزاهية التي نقدمها عن مفكرين نحبهم ونقدر نشاطهم التنويري وإسهامهم في تقدم مجتمعاتهم.
لك فيعتقد من يستمع إلينا أو يقرأ كتاباتنا عنهم أنّ هؤلاء المفكّرين منزّهون عن الخطأ، ليس في صفحات حياتهم وممارساتهم إلاّ النقاط المضيئة.
أمّا الظلم في ذلك فهو أنّنا نحمّل هؤلاء الذين ننزّهُهم عبءَ مطابقة الصورة الزاهية التي نرسّخها في الأذهان، وهم غير قادرين على النهوض بهذا العبء، لأنّهم بشر لهم أخطاؤهم ونقاط ضعفهم التي تكثر أو تقلّ، وهذه طبيعة الحياة التي لا يشذّ عنها العظماء والمبدعون.
وأمّا الإنصاف فيقتضي تصحيح تلك الصورة، وتقديم المفكّرين الكبار على حقيقتهم، أي بنقاط قوّتهم ونقاط ضعفهم، وتقديم منظوماتهم الفكريّة التنويريّة، بما فيها من جوانب اخترقتها رواسب التخلّف الكامنة في التكوين العقليّ والنفسيّ، والتي هي نتاج ماضي بيئاتهم وحاضرها، عند ذلك يستطيع من يقرأ عن هؤلاء المفكّرين أن يكوّن عنهم تصوّراً واقعيّاً، فلا يرفعهم إلى سماء التنزيه، ولا يهوي بهم إلى درك أسفل. وعند ذلك أيضاً، لن يصطدم من يطّلع على أعمالهم بما يخالف الصورة الزاهية عنهم.ومن أسطع الأمثلة على هذا النوع من الظلم، ما تركه في أذهان الناس معظمُ الباحثين الذين كتبوا عن شخصيّة نهضويّة عربيّة كبيرة تستحقّ التقدير والإجلال، هي شخصيّة عبد الرحمن الكواكبيّ. لقد عمّموا موقف الكواكبيّ من الاستبداد - وهو موقف متميّز سبّاق - على مواقفه كلّها، فغطّوا ما في فكره من جوانب أخرى غير نهضويّة ولا حداثيّة، وليست أبداً على مستوى موقفه المتقدّم من قضيّة الاستبداد وكشف عورات الأنظمة الاستبداديّة. قد يسأل سائل: وأين الظلم في هذا؟ إنّهم نفعوا الكواكبيّ إذ قدّموه نهضويّاً ديمقراطيّاً فاضحاً للاستبداد منبّهاً على خطره وضرره! لكنّ الحقيقة هي أنّ القارئ، إذا قرأ كتب الكواكبيّ، فسوف يجد أنّ هذا الرجل الذي كان نهضويّاً رائداً في تعرية الاستبداد ومقارعته، كان صاحب مواقف أخرى ليست ديمقراطيّة ولا نهضويّة أو تحديثيّة، تتعلّق بجوانب بالغة الأهميّة في حياة المجتمعات، فتهتز صورته الزاهية المنزّهة التي ارتسمت في الأذهان، وقد يتهاوى من عليائه في نظر بعض القرّاء.. وبهذا، يصبح ذلك الرائد الكبير ضحيّة للظلم، ظلم محبّيه ومدركي أهمّيّته. كان الإنصاف يقتضي أن يُقدّم الكواكبيّ للقراء كما هو تماماً، بصورته الحقيقيّة الواقعيّة، أي بنقاط قوّة مشروعه الفكريّ ونقاط ضعفه. وكمثال لنقاط الضعف تلك نذكر موقفه من المرأة. لقد رفض فكرة تحرّر المرأة رفضاً كاملاً، ولا يمكن أن نردّ موقفه هذا إلى طبيعة عصره ومجتمعه، فقد سبقه وعاصره مفكّرون آخرون طرحوا فكرة تحرير المرأة بتعليمها ورفع القيود عن حركتها، وتمكينها من الإسهام في نهضة مجتمعها، وأبرزهم الطهطاوي وقاسم أمين
وغيرهما.
وللتعرّف على موقف الكواكبيّ من قضيّة المرأة نعود بالقارئ إلى كتابه الرائد (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد)، فحين نقرأ ما قاله عن المرأة نظنّ أنّنا أمام رجل بسيط من العامّة، مسكونٍ بالمواقف الموروثة المتخلّفة، ونلمس التفاوت الكبير بين تحليله العميق لطباع المستبدّين وأضرار الاستبداد وسطحيّة موقفه من المرأة. يُصرّح الكواكبيّ مثلاً بأنّ "المرأة هي النصف المضرّ في المجتمع"، كما يرى أنّ "ضرر النساء يترقّى مع الحضارة والمدنيّة". ولعلّ هذه العبارة تؤكّد رفضه تعليم المرأة، فإذا كان ضرر المرأة يزداد مع الترقّي فإنّ تعلّم المرأة يزيدها قدرة على الضرر. وبرغم ثقته بتقدّم عقول الرجال على عقول النساء، يؤكّد قدرتهنّ على التلاعب بعقولهم: "وإنّ النساء يتلاعبن بعقول الرجال كما يشأنَ حتى أنّهنّ جعلن الذكور يتوهّمون أنّهنّ أجمل منهم صورة". كما نجد لدى هذا المفكّر نقاط ضعف أخرى، يصل بعضها إلى بحثه في الاستبداد ذاته، ولا سيّما حين يبحث في أسباب الاستبداد. ولم يكن الكواكبيّ الوحيد الذي اعترت أعماله النهضويّة المتميّزة نقاط ضعف كبيرة أغفلها معظم الدارسين، فالكثير من كبار المفكّرين العرب في عصر النهضة، اخترِقت منظوماتهم الفكريّة بمواقف غريبة عن تطلّعاتهم العامّة، وأفكار لا تنسجم مع نزوعهم النهضويّ التحديثيّ. وهذا أمر نكاد نقول إنّه طبيعيّ، نجده عند المفكّرين العرب كما نجده عند مفكريّ أوروبا وغيرها، ونجده في فكرنا القديم كما في الحديث والمعاصر.إنّنا نلحق بالمفكّرين أذى وظلماً حين تَبهَرُنا نقاط القوّة في مشاريعهم، فتمنعنا من رؤية نقاط ضعفها، وهذا هو الجانب الآخر للظلم، وهو لا يقلّ ضرراً عن تقديم صورة سوداء لا بصيصَ فيها.
* كاتب وباحث من سوريا