نقديات العقل الأميركي!

آراء 2020/11/10
...

جواد علي كسار
كنت أُحضّر لعمود بهذا العنوان عن العقل العربي بعد التطبيع، بيد أنَّ وقائع المشهد الأميركي دفعت العقل العربي جانباً، ليحلّ محله العقل الأميركي. 
أقصد بالعقل الأميركي هو النسق الثقافي المتراكم، وهو ما يمثل الإطار المرجعي لطريقة التفكير في الحقل الذي أعنيه؛ الحقل السياسي. ففي السابق كنا نفكر في العقل السياسي الأميركي نقدياً، من خلال مدرستين هما الماركسية والإسلامية، رغم ما بينهما من اختلاف في المنهج، إذ كانت الماركسية تؤكد أهمية الجانب الاقتصادي وسرقة الرأسمالية لفائض القيمة، بينما كانت المنهجية الإسلامية تركز في نقدها كثيراً،على الجانب الأخلاقي في الحياة العامة وفي قضايا المرأة والأسرة خاصة، وعلى التميز وغياب العدالة.
لكنَّ المشهد الثقافي انقلب بشكلٍ كاملٍ وتحوّل جذرياً إبان العقود الأخيرة، وهو يزيح الماركسيين والإسلاميين، لصالح تيارين جديدين أحدهما التيار النقدي من داخل أميركا نفسها، والآخر تيار النقد الجذري الذي نما وترعرع داخل العالم العربي.
ففي العالم العربي وضعتنا أعمال المفكر المصري الراحل عبد الوهاب المسيري (ت:2008م) أمام منظومة معرفية متكاملة، ترتكز إلى المعلومة المباشرة والمعايشة الميدانية، وتتسلّح برؤية نقدية صلبة وإطار منهجي مرجعيّ عميق وجامع، كما رصدنا هذه الخصائص كلها في كتابه العتيد: "الفردوس الأرضي: دراسات وانطباعات عن الحضارة الأميركية الحديثة" الذي صدر أواخر سبعينيات القرن الماضي، ثمّ راحت رؤاه تمتد وتتّسع وتتكامل، من خلال كتبه اللاحقة.
من الأسماء التي لمعت في نقد الأنموذج الغربي وقاعدته المكينة أميركا، المفكر المتميز حسن حنفي عبر كتابه البارز "علم الاستغراب". أضف إلى ذلك العديد من أعمال سمير أمين (ت:2018م) يوم تحرّر من قوالب المنهجية الماركسية الضيّقة، بحيث انتشرت كتبه في أميركا نفسها، وصارت مصدراً للتيار النقدي.
قبل الانتقال إلى التيار النقدي داخل أميركا نفسها، أرى نفسي مدفوعاً بالأمانة العلميَّة، للإشارة إلى عملين جادين وعميقين في نقد نمطيات العقل الأميركي، أحدهما "الداء الأميركي" للمفكر الفرنسي ميشيل كروزيه، والآخر "أزمة الحضارة" للأسترالي جوزيف كاميللري، فقد قدم هذان الباحثان منظومة نقديَّة عظيمة النفع للحضارة الغربية من داخلها، ولا سيما للواقع الأميركي. وإذا كان صاحب "أزمة الحضارة" يكتب بطريقة وكأنه يريد بديلاً للحضارة الغربية مطلقاً، فإنَّ صاحب "الداء الأميركي" أراد لأطروحته في الكتاب، إنعاش الواقع الأميركي، بالمراجعة والنقد والاعتراف بالخطأ؛ كلّ ذلك من أجل استعادة أميركا السعيدة، وأنْ يكون الحلم الأميركي هو أمل الإنسان في الحضارة الأوروبيَّة.
أما في داخل أميركا نفسها فإنَّ أعمال المفكر والفيلسوف نعوم تشموسكي تمثل وحدها، محاولة هي الأجرأ والأشمل والأوسع خلال قرن من الزمان، لنقد أميركا وإخضاعها إلى مراجعة جامعة، اصطفت إلى جواره أسماءٌ كبيرة مثل ديفيد هروي وأريك هوبسباوم ونعوم كلين وتوماس بيكتي، وغيرهم ممن هو معروف في أميركا مجهول خارجها.
نعمة الترامبية وواحدة من فضائلها الكبرى، أنها أعطت لنقد الأنموذج الأميركي والعقل الذي تُفكر به أميركا، قيمة معرفية وواقعية ووجدانية داخلية، بعيدة كلّ البعد عن التباسات النقد الإيديولوجي عند الماركسيين والإسلاميين وانصار صراع الحضارات!