التسامح أحد مستلزمات إدارة التنوع

آراء 2020/11/15
...

 شمخي جبر
{يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا}
في العام 1996 دعت الجمعيَّة العامة الدول الأعضاء إلى الاحتفال باليوم الدولي للتسامح في 16 تشرين الثاني، من خلال القيام بأنشطة ملائمة توجه نحو جميع المؤسسات التعليمية وعامة الجمهور (القرار 51/ 95، المؤرخ 12 كانون الأول/ ديسمبر).وتحتفل دول العالم باليوم الدولي للتسامح بوصفه فرصة لتأكيد قيم الاخاء والمحبة والتعايش بين الشعوب والقوميات والأديان والثقافات المختلفة.
التسامح قيمه إنسانيَّة أخلاقيَّة ديمقراطية، ويمكن أنْ يقسم وفق حقول فاعليته وممارسته كالتسامح الديني والعراقي والفكري والثقافي والتسامح السياسي، ويمكن اختصاره بقبول التعدديَّة والتنوع وقبول الاختلاف.
والتسامح يعبر عن احترام ثقافة وعقيدة وعادات وتقاليد الآخرين بوصفها جزءاً من حرياتهم، وقد يشمل هذا الاختلاف في الثقافات أو الأديان، فهنا يأتي التسامح الديني الذي يعني احترام التعدد والتنوع الديني والتعايش معه وعدم التنكر له أو اتخاذ مواقف متعصبة ضده، فالحريات الدينيَّة وممارسة الشعائر والطقوس حقٌ للجميع وهو أحد الحقوق التي أشار إليها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948) والذي أقرته المادتان 18 و19 
منه.
والتسامح قد ينطلق من ثقافة الفرد وتعبيره عن ذاته وأخلاقه وإنسانيته أو ورعه وتقواه أو متبنياته الفكريَّة والثقافيَّة والسياسيَّة، أو قد يكون منظماً دستورياً وقانونياً وهو الأصح والأصوب، فلا يترك الأمر لخيارات الأفراد وأمزجتهم 
ومواقفهم.
فالقانون ومؤسسات الدولة هي التي تسهر وتهتم وتعتني بالجماعات الدينية والعراقية بوصفها إحدى الوحدات المجتمعيَّة التي يقع على الدولة مسؤولية رعايتها وإشاعة ثقافة التسامح والتعايش في الأوساط المجتمعيَّة من خلال التربية والتعليم ووسائل الإعلام ومنظمات المجتمع 
المدني.
فالتسامح وثقافته لا تنبثق من فراغ، بل لا بُدَّ من التأسيس له، فهو إذنْ بحاجة الى بيئة حاضنة وتراكم وتربية، ليتحول الى قوة ماديَّة، وقد أسس القرآن الكريم للتسامح في آيات عديدة.
 
الموقف الديني
فقد كرَّم الإسلام الإنسان بغضِّ النظر عن الجنس والدين والمعتقدات واللون والطائفة فلا إكراه في الدين لأنَّ الإسلام لم يفرض عقيدة خاصة بل دعا الإنسان إلى أنْ يتخذَ قراراته بحريةٍ تامة من دون اضطهاد أو خوف أو إكراه أو تهديد.. يقول الإمام الشافعي: (رأي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب) وهذا أنموذج للتسامح وقبول التنوع والاختلاف، فتعدد وجهات النظر بشأن القضية المطروحة، هو قيمة إنسانية تعني احترام التعدد والتنوع والاختلاف، أما الواحدية ورفض التنوع والاختلاف وعدم الاعتراف بالمختلف وفكره ووجهة نظره، وما عليه إلا التخلي عنه طوعاً أو كرهاً، وهو أمرٌ يتعارض مع مبدأ الحرية الذي شيد الإسلام بنيانه عليه (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر). ويقول الإمام علي (عليه السلام): ((الناس صنفان: أما أخ لك في الدين, أو نظير لك في 
الخلق).
إذ يمكن أنْ نجد الكثير من النصوص الدينيَّة، لا سيما في النص القرآني، ما يحث على قبول التنوع والاعتراف به والتسامح مع المختلف وقبوله، بوصف التنوع إحدى سنن الكون، وقد اتخذ الموقف من التعايش عدة وجهات ربما يتناساها المتطرفون والمتعصبون أو يغضون الطرف عنها أو يفسرونها على هواهم.
فقد أكد النص القرآني على الاعتراف بالأديان وتعددها: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ 
يَحْزَنُونَ)).
ويوصي بالتعايش مع أتباع الديانات الأخرى ما داموا يعيشون معهم بسلام ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ 
الْمُقْسِطِينَ﴾.
فالأمر لله أولاً وآخراً وليس لنا من الأمر من شيء (﴿إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾، ﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾، ﴿إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ 
تَخْتَلِفُونَ﴾.
وعن التعددية القومية قال (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ 
أَتْقَاكُمْ).
 
احترام التعدد والتنوع
وفي ظل التنوع والاختلاف، يبقى قبول التعدد والتنوع والتعايش معه بوصفه جزءاً من الحياة وسنة من سنن الكون، يجب قبوله لأننا نتعامل معه بشكلٍ يومي، فهو واقعٌ يفرضُ نفسه علينا ولا يمكن تجاهله في أي حال من الأحوال، وإذا كنا نرفض اختلاف الآخرين ونستهين بما لديهم فمن حقهم أنْ يسخروا منا، فإذا كنا نريد أنْ يحترم الآخرون ما نحن عليه،علينا أنْ نحترم معتقداتهم (وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ)، فالإنسان ابن بيئته، فهي التي تنشئه وتكونه وتلونه، وهي التي توفر له ما تملك مما يفي بحاجاته الأساسيَّة، وفي بيئة يتعلم ماذا يقدس وأي الطقوس يمارس فهو غير مختار بل يرث كل هذا داخل الأسرة والمجموعة الاجتماعيَّة التي ينتمي إليها بل يرث هذا الانتماء وقد قال رسول الله (ص): (ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه).
فالبيئة الاجتماعية هي التي تجعل الفرد يتأقلم مع متبنياتها العقائديَّة والثقافيَّة لينسجم معها.
وهي سنة الحياة التي منحها الله التنوع والتعدد والاختلاف (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً)، اختلاف الناس إلى شعوب وقبائل وأديان وثقافات وحضارات (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ 
لِتَعَارَفُوا)
(لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)، فديننا دين التسامح الذي ينبذ الغلظة والتعصب والجفاء ويحض على اللين والرّفق والسماحة ويأمر بالتحابُب والتراحم والتآلف ويعترف بوجود الآخر وينهى عن سبّه والتحرّش 
بدينه.
وإذا كان هناك من ينظر الى التسامح بأنه ضعفٌ، ويصور ثقافة التسامح بأنها ليست من ثقافتنا، فإنَّ هؤلاء هم أعداء الحياة وأعداء الفطرة السليمة، إذ ينظر هؤلاء على أنَّ أي حديث عن التسامح يقود الى "التساهل إزاء العقيدة، فيرد عليهم أحد الباحثين (إنَّ التسامح يحتاج قوة أكبر من الانتقام) فهو تعبير ثقة الأمة بنفسها 
وبدينها.
ففي مجتمعات التنوع يعدُّ التسامح أحد مستلزمات إدارة هذا التنوع والتعدد ورعايته لأنه مصدر قوة المجتمع وتماسك سداه ولحمته وتمتين السلم 
المجتمعي.