العراقيون والبحث عن الدولة

آراء 2020/11/16
...

 د. احمد  الجبوري
هل كتب على العراقيين "التيه" لأربعين سنة أخرى؟، فمنذ عام 1980 وحتى يومنا هذا(2020) يعيش العراق أوضاعا كارثية، فكل حرب كانت تلد أخرى، وكل كارثة كانت تتمخض عن آلام تحفر عميقا في الوجدان والعقل والمجتمع العراقي فمن حرب مع ايران، أكلت الأخضر واليابس، الى مغامرة احتلال الكويت، إلى حصار اقتصادي، يزيد عن عقد، إلى الاحتلال الأميركي، إلى دولة الطوائف، إلى دولة داعش، التي ابتلعت ثلث العراق في غفلة من النخبة السياسية المنشغلة بتتبع مصالحها في بغداد.
فقد قضى العراقيون زمنا طويلا من عمرهم في حفر الخنادق والقبور، وكانت مشاهد العزاء والتأبين والمراثي والبكائيات جزءاً من يوميات الانسان العراقي، وكأن الوطن ثكنة أو مشروع قبر.تلك التحديات التاريخية، المزمنة والمتوارثة من جيل لأخر، كان لها دور كبير في تحديد شكل وهوية الدولة العراقية، وطبيعة دورها، ما ابقاها عاجزة عن تحقيق شروط التنمية الاقتصادية المستدامة وتوفير الاستقرار والامن وضمان القانون والنظام، حيث انتقلت الدولة العراقية من بنية شديدة المركزية هيمنت على كل مفاصل الدولة السياسية والاقتصادية والإدارية والاجتماعية إلى بنية شديدة الطائفية، قسمت المجتمع والمناصب والوظائف وموارد الدولة على اسس هوياتية قروسطية، تتخفى خلف ديموقراطية وانتخابات واقتراع، في حين ابتعدت فكرة الدولة والمؤسسات الصلبة والمواطنة، وتوارت فكرة الدولة بعيدا خلف دولة الطوائف.
كل تلك التشوهات في بنية الدولة والمجتمع العراقي ادركها الجيل الشاب من العراقيين عبر واقعهم اليومي الصعب، الامر الذي دعاهم للخروج الى الساحات والميادين العامة قبل عام وأحيوا ذكرى سنويتها الاولى في تشرين الأول الماضي، معترضين ومنتفضين ضد  التركة الثقيلة من الاستبداد والمحاصصة الطائفية، وسوء الادارة والتخبط، الذي مارسه الساسة على مدى عقدين من الزمان، حيث كان حزب الفساد هو اكبر الاحزاب العراقية منذ عام 2003، واكثرها نفوذا، وهو حزب عابر للطوائف والقوميات والمذاهب.
وحمل الشباب خطابا وطنيا جامعا، يرفض المشروع الطائفي والهيمنة الخارجية للسفارات، ودعوا إلى الإصلاح السياسي، الذي يجتث النظام من جذوره"#شلع-قلع" و" أريد– وطن" و:الشعب يرييد إسقاط الفساد"، وشعارات الحرية والعدالة والكرامة والوظائف.
فكانت صرختهم مدوية وقوية في وجه الطائفية وما اثخنته من جراح في الجسد العراقي المكلوم، وما ببدده الفساد وأهدرته المحسوبية من نزيف لموارد هذا البلد الذي يربض على بحر من النفط، لكن مواطنه مفقر يعاني من ارتفاع معدلات التضخم والبطالة(40%)، والفقر(20%) من العراقيين يقبعون تحت خط الفقر)، وارتفاع معدلات الانتحار(3) آلاف حالة بين عامي 2015و2017)، ناهيك عن حالة انعدام الامن والاستقرار، التي يمر بها العراق في ليله الطويل، واختطاف الناشطين، وقتل المتظاهرين بكاتم الصوت(560) محتجا قتلوا خلال الاحتجاجات منذ تشرين الاول العام الماضي، وسط تغاض متعمد عن محاسبة الجناة)، والهجمات الصاروخية، التي وصلت آثارها الى المنطقة الخضراء والسفارة الاميركية التي تتجه للاغلاق، كل ذلك شكل دافعا نفسيا واقتصاديا واجتماعيا للعديد من الشباب العراقي اليائس الى الخروج للشوارع، او الهجرة خارج حدود الوطن.
وقد فاقم انخفاض اسعار النفط منذ نحو 6 اعوام الأزمة الاقتصادية والمالية في العراق؛ حيث هبط سعر برميل النفط اكثر من 60% من قيمته، اذ انخفض من 100 دولار الى اقل من 30 دولاراً، وخلال اشهر خسر العراق نصف ايراداته المالية، وهو سعر يقل كثيرا من السعر المعتمد في الموازنة العامة للدولة، التي تعتمد بشكل كبير على النفط، الامر الذي يزيد العجز ويسبب عدم الاستقرار المالي.
يأتي ذلك في ظل تعثر القطاع الخاص العراقي، الذي يعاني من جملة عوائق ومشكلات تعيق نموه وتطوره، ابرزها الاطار التشريعي والتنظيمي المتقادم، والذي يحتاج الى اعادة نظر، والمنافسة غير العادلة من قبل القطاع العام، وضعف الشراكة بين الجانبين، وعدم اشراك القطاع الخاص في القرارات الاقتصادية المهمة، وغياب نظام الحوكمة، وهشاشة البنية التحتية، ونقص العمالة الماهرة الى غير ذلك من المشكلات المزمنة، التي عمقت من جراحها أزمة كورونا وما سببته من اغلاقات اقتصادية، واضعفت المنظومة الصحية التي تكشفت مدى هشاتها خلال جائحة كورونا، التي شكلت ضربة مزدوجة(مع انخفاض برميل النفط) للاقتصاد العراقي، ما جعل العراق يقف على حافة كارثة.
بالمحصلة، وصل الاقتصاد العراقي الى مرحلة الركود(البنك المركزي العراقي يتوقع انكماشا بنسبة 9,7% خلال عام 2020، مقارنة بنمو 4,4% حققها خلال عام 2019)، وارتفع عجز الموازنة الى 19,5 مليار دولار عام 2019، والى 57 مليار دولار عام 2020 (ما يعادل 70,6 تريليون دينار عراقي) وهي فجوة تمويلية يصعب ردمها، وارتفعت المديونية الى 135 مليار دولار(160 ترليون دينار)، وهو ما يعني ان حجم الدين الكلي من الناتج الوطني العراقيي يشكل 90,85%، والامر الذي دعاه الى التوجه لصندوق النقد الدولي في مسعى لاقتراض 5 مليارات دولار.
الازمة الحقيقية، هي انه ما من احد في العراق يتحدث عن الدولة: النخبة السياسية تدوّر الكراسي فيما بينها، والطوائف تبحث عن المكاسب والاقليات خائفة تبحث عن الحماية، والمواطن يبحث عن كل شيء؛ عن الامن والغذاء والدواء وراتب آخر الشهر، التي اصبحت الحكومة عاجزة عن تأمينه للموظفين والمتقاعدين والمستفيدين من شبكة الرعاية الاجتماعية للأشهر الثلاثة الاخيرة من العام الحالي، في حين ثمة شرائح عراقية تتقاضى اكثر من راتب من الحكومة، التي تكلف خزينة الدولة المنهكة ما يزيد على 18 مليار دولار سنويا؛ حيث يبلغ عدد من يتقاضون هذه الرواتب نحو 30 الفا و 975 شخصا، بينما كانت اعدادهم الحقيقية بين عامي 1991و2003 لا تتجاوز الـ 3500 شخص، وهو ما يضع علامة استفهام كبيرة حول ذلك.
المفارقة ان مليارات الدولارات تبخرت من العراق، منذ الاحتلال الاميركي، بسحر ساحر، وقد قال السياسي العراقي الراحل، احمد الجلبي، ذات مرة: " ان عملية النهب التي تعرض لها العراق تفوق عملية النهب التي اعقبت انهيار الاتحاد السوفييتي عند سقوطه".
الديموقراطية الطائفية في العراق، التي صنعت على يد بول بريمر، لم تجلب للعراق الاستقرار والامن، كما ان الانتخابات وصناديق الاقتراع عززت الانقسامات والتشظيات في المجتمع العراقي، بل ان الدولة الهشة في العراق تعاني آلام مخاض عسيرة عقب كل انتخابات (4 انتخابات جرت في العراق منذ 2003)، عند كل ولادة على مائدة تقاسم الوزارات، للاستحواذ على الوزارات السيادية.
ذلك المشهد متكرر وسيتكرر، للبحث عن المغانم من دون مغارم، وهو تفكير لن يتغير ما دام الجميع يبحث عن السلطة، وما من احد يبحث عن الدولة، التي يفترض ان تنضوي تحتها الطوائف والقوميات والاحزاب، لا العكس.
يجب الاعتراف، ان العراقيين اضاعوا 17 عاما، كانت كافية لبناء دولة حديثة، لان النخبة السياسية العراقية مازالت تقرأ من قواميس الماضي ولم تتخلص من عقده واحقاده، الامر الذي اعاقها عن العمل من اجل الحاضر والمستقبل، وبذلك فشل صناع القرار، حتى اللحظة ، في بناء مؤسسات دستورية صلبة، كما اخفقوا في تكريس اعراف وتقاليد راسخة تتحلل من براثن الاستبداد وعقد الطائفية، وتعزز دولة القانون ومبادئ المحاسبة وتمكن التكنوقراطيين والخبراء الاستشاريين الوطنيين القادرين على انتشال العراق من همومه وجراحاته، ووضع ستراتيجيات وخطط للمضي قدما في بناء عراق واعد، لكل العراقيين، بكل طوائفه، والتي حينها لن تكون عبئا على الدولة، بل فسيفساء وخزان ثقافي متنوع لتشكل قوس قزح لعراق واحد، بالوان متعددة. والفرصة مازالت مواتية لتحقيق كل ذلك. ولنتذكر انه ما من سبيل الى المستقبل من دون دولة ومؤسسات .