اختلف الدارسون والباحثون في أصل تسميته ونشأته, لكنَّ "الدارمي" عبّر في محتواه عن حكمة قائلة وفلسفته في النظر الى ما يحيط به من أحداث ووقائع, فهو كلام موجز دال على معنىً محدد واضح, وأغلبه من نتاج المرأة المضطهدة اجتماعياً في الريف العراقي, بعضهم أسماه (شعر البنات), والآخر: (نثر البنات), والبعض (غزل البنات), ومبدعه معنىً وصياغة مجهول القائل يصنفه البعض من العروضيين على أنه من مجزوء الرجز.
مستفعلين فعلان مستفعلاتن
مستفعلن فعلان مستفعلاتن
ومن جميل الدارمي كانت أحلى الأغنيات التي استمتعت بها الذائقة الشعبية, وبيت الدارمي الذي نحن بصدد قراءته:
لحزامي أدش بالماي وأدعي اعله "هادي"
عيّدت كل الناس وآنه بسوادي
وورد في صياغة أخرى، إذ حلّت مفردة "لهنا" بدلاً من "لحزامي"، وهذا الاختلاف كما أزعم سر خلود هذا النوع من الشعر العذب الذي يلخصُ أحداثاً كبيرة في عبارات قليلة, غنى هذا الدارمي ضمن أغنية له المطرب الكبير داخل حسن, وما زالت المحافل الشعبية تردده في أفراحها, وسمعت من أحد المعمرين حكاية هذا الدارمي وملخصها: أنَّ العادة جرت في الريف خاصة, وعند وفاة أحدهم أنْ تتشح النساء بالملابس السوداء تعبيراً عن الحزن بفقدان الأعزاء من الناس, وبعد انقضاء فترة الحداد وغالباً ما تزيد على أربعين يوماً, ينبري أهل المتوفى الى تقديم الملابس (الملونة) الى النساء الحزينات إعلاناً عن انتهاء فترة الحداد, وهذا أصبح من الأعراف السائدة آنذاك, لكنَّ شقيق الميت أغفل عن عمد أو بدونه إعطاء إحداهن الثوب الذي يعلن نهاية الحداد, فتألمت لحالها وقالت هذا البيت الموجع الذي يعبّر عن إحساسها
بالظلم:
لحزامي أدش بالماي وأدْعي اعله "هادي"
عيّدت كل الناس وآنه بسوادي
معنى ذلك أنها ستدخل النهر الى منتصف جذعها لتتطهر باعتبار أنَّ النصف الأسفل من الجسد موطن النجاسة, لتطلب من ربها أنْ ينتقم من (هادي) شقيق الميت, إذ منح هذا الـ(هادي) جميع النسوة ثياباً جديدة عدا المسكينة التي يشك بأنها كانت الحبيبة الغادرة لأخيه
الراحل".
ويضيف المعمرّ المتحدث: أنَّ هذه المرأة (المكسورة) الخاطر ظلت الى وفاتها تعاني من عقدة الشعور بالذنب, ويؤكد أنَّ هذه القصة حدثت في الواقع وهو أحد شهودها، وهكذا فإنَّ الدارمي اكتنز حكاية الألم والمرارة وصاغتها قائلتها بهذه البلاغة المعبّرة عن الإحساس بالخيبة والانكسار, وظلت هذه النصوص من الشواهد الحيَّة على ما كان المجتمع العراقي من علاقاتٍ وقيمٍ متخلفة ضحيتها المرأة في كل الأوقات.
وهنا لا بدَّ من التأكيد على أنَّ هذا النوع من الشعر ما زال متسيداً ساحة الغناء العراقي بسبب عفويته وصدق قائله (وقائلته), وسيظل علامة واضحة على حجم الخسارة التي تتكبدها المرأة وهي تعيش في مجتمع يراها ناقصة العقل ويؤنبها على أنها حفيدة حواء التي أخرجت آدم من جنة
الله.