الدراسات العليا والكتابة الإبداعيَّة

منصة 2020/11/25
...

د. عبد الحسين علوان الدرويش
لم تعرف الحضارات الأولى إلا عن طريق الرقم الطينيَّة التي دونها مبدعو حضارة وادي الرافدين، الرفيعة المستوى، إذ تعد على الأرجح أقدم مهد للثقافة الإنسانيَّة قاطبة، فقد عرفت كتابة بلاد ما بين النهرين بشكلها المتأخر باسم الكتابة المسماريَّة التي انطلقت من بابل وانتشرت انتشاراً واسعاً في العالم. مما لا ريب فيه إن نشوء الحياة الحضرية في بلاد الرافدين وتطورها في جميع المجالات، استلزم اختراع الكتابة والتدوين. 
 
 
كان الكاتب أهم رجل بلا ريب في مجتمع ما بين النهرين، ولعلَّ الملوك بسطوا سيطرتهم عل مناطق غير معروفة، ولعلَّ التجار نظموا استيراد السلع، النادرة من بلدانٍ بعيدة، ولعلَّ موظفي الري وجهوا العمال للإفادة من مياه الأنهر الغزيرة ولجلب الخصوبة الى التربة. ولكنْ لولا كاتب يسجل ويرسل ويصدر الأوامر، ويوفر المعطيات الفلكيَّة لتنظيم التقويم وحساب قوة العمل الضروريَّة لشق قناة أو الأرزاق التي يتطلبها الجيش لما أمكن إنجاز تلك الأمور ومواصلة هذه الفعاليات إلا بوجود الكاتب والمدونات.
ولهذا يعدُّ برنامج الدراسات العليا لنيل درجة الدكتوراه في الكتابة الإبداعية من أقدم البرامج في الدراسات العليا في اختصاص الأدب والعلوم الإنسانية، إذ تأسس في الولايات المتحدة في جامعة دنفر عام 1947 وانتشر في كل الجامعات الأميركية أسوة بالجامعات العالميَّة في بلدان غربيَّة أخرى. هدف هذا البرنامج منذ البداية التأكيد على الدور الذي يلعبه الفضول الفكري في الإبداع الأدبي الكثير، إذ يجتمع التفكير الإبداعي والنقدي معاً في دراسة أكاديميَّة تضيف للمشهد الأدبي الكثير من الإبداع في هذا البرنامج ينتج الطالب عملاً أدبياً روائياً أو شعرياً ثم يقرن خلقه الإبداعي بفصل واحد يتناول فيه أحد الأطر النظريَّة الأدبيَّة التي اعتمدها واستمد منها نتاجهه الإبداعي ومؤلفه الأدبي الذي اعتمده واستمد منه نتاجهه الإبداعي ومؤلفه الأدبي تحت عنوان: (Exegesis التفسير)
وهكذا تتبلور نواة البرنامج من خلال التأكيد المتساوي على جميع جوانب الإبداع الأدبي وهي الكتابة المقروءة والمناقشة والنقد الأدبي، وخلال عقود من الزمن تطور هذا البرنامج عن طريق نشر الأعمال الأدبيَّة الناتجة عن البرنامج كقصص وأشعار حديثة نشرت أولاً عن طريق دور النشر العائدة لتلك الجامعات. كما احتضنت هذه الجامعات الكثير من الروائيين والأدباء في فريق التدريس في برنامج الحصول على الدكتوراه من خلال الكتابة الإبداعية وساهمت بشكل مؤثر في إرساء النظريات النقدية الحديثة واستغلالها في أعمالٍ أدبية للمشتركين في هذه البرامج. ولكن على مر السنين تغير نوع الموضوعات المطروحة مثلاً من الموضوعات التي تتناول الحياة الغربية في أماكن ذات خصوصيَّة مناطقيَّة الى موضوعات عالميَّة تخض العالم أجمع بمختلف ثقافاته واتخذ البرنامج طابعاً عالمياً في البحث في العلوم الإنسانيَّة والنتاج الأدبي الذي يروي حياة الشعوب في العالم أجمع.
حدث هذا التغير في هذا البرنامج الى العالميَّة في نتاجه وموضوعات الدراسة في ستينيات القرن المنصرم، إذ قدم الكتاب الأفارقة لنيل درجة الدكتوراه في الكتابة الإبداعية في جامعات الولايات الأميركية. وهذا أدى الى فتح آفاقٍ جديدة لتبادل الجوانب والقيم الثقافية العالمية في المجتمع الأكاديمي وكذلك تأسيس منهج ثقافي وفكري حديث للدراسات الأدبية.
ونتج عن ذلك التنوع في الأسلوب والأطر النظرية في الفن الأدبي. نجد هذا التنوع يعكس الاتجاه نحو النظريات الجمالية في سبعينيات القرن المنصرم والتأثيرات الأدبية الكثير بين الولايات المتحدة وأوروبا وأماكن كثيرة في العالم.
وبعد أنْ استعرضنا نبذة تاريخيَّة عن منشأ وتطور هذا البرنامج الدراسي لا يسعنا اليوم إلا أنْ نشيد بالنتاج الأدبي العالمي الإبداعي للدكتوراه في الكتابة الإبداعية والذي يتسم بالأصالة والإبداع وتشهد دور النشر العالمية زيادة ملحوظة في عدد المؤلفات الأدبية للطلبة المشتركين في هذا البرنامج عند تخرجهم وأحياناً كثيرة حتى قبل التخرج ونيل درجة الدكتوراه رسمياً.
يمكننا القول إنَّ هذا البرنامج المتبع في الدراسات العليا في معظم الجامعات الغربية هو الجسر الثقافي الذي يوثق الروابط الحضاريَّة بين الغرب والشرق وينقل القيم والمعرفة التاريخيَّة بين الشعوب لمواجهة المشكلات اليوميَّة في عالمنا المعاصر. وايضاً هو مصنع المبدعين حيث تتوج الموهبة في الفن القصصي والشعري بالمعرفة في النظريات النقدية الأدبيَّة. ولأهمية هذا الأمر، الذي توجت الجامعات الغربية به المبدعين في الأدب، لا بدَّ أنْ تتخذ خطوات جدية في هذا المجال في وزارة التعليم العالي والبحث العلمي والجامعات العراقية التي تقع تحت لوائها الأكاديمي، وتضعه حيز التنفيذ، وإعطاء المبدعين حقهم الطبيعي ومكانتهم اللائقة. إنها أمنية.. وما أكثر الأمنيات ولكن تحقيقها 
صعب!.