حكيم السودان!

منصة 2020/12/02
...

جواد علي كسار
في مسحةٍ لا تخلو من استخفاف، قال عمر حسن البشير مخاطباً أركان انقلابه العسكري (الإسلامي!): إذن، ابحثوا عن الصادق المهدي، لكي نسلّمه
 السلطة!
صدر هذا الكلام من الجنرال البشير، أوائل انّقلابه على الحكم المدني المنتخب في السودان عام 1989م، رداً على التقارير التي قدّمها المسؤولون عن البلد، وما تضمنته من أرقام عن تردي الأوضاع، بدءاً من انخفاض المخزون الستراتيجي من الطعام والدواء، وضآلة مُدخرات العملة الصعبة ومآزق العملة المحليَّة والاقتصاد، وأزمات الطاقة، وانتهاءً بالحالة الأمنية؛ فعندما سمع هذه المعطيات الرقمية السلبية، أجاب البشير متهكماً: لنترك الحكم، وابحثوا عن الصادق المهدي، لكي نعيد إليه السلطة، وذلك بحسب أفلام موثّقة، تسنى لنا رؤيتها بعد إسقاط البشير، والزجّ به في السجن!
ليس هذا المنطق غريباً على البشير وأضرابه من الجنرالات، ففي العادة لا ينظر العسكري حين يتغلّب على السلطة، إلى ما هو أبعد من فردتي حذائه العسكري (بسطاله!)، ولا يعي حقائق إدارة الدولة، إلا بعد زمن يطول غالباً، عدا استثناءات قليلة! لكنْ من هو الصادق المهدي الذي اجتمعت على احترامه في السودان؛ كلمة المعارضة والسلطة، والشعب والنخبة، ومن هو معه ومن ضدّه؛ داخل السودان وفي الإقليم والعالم، على الأقلّ لحظة موته، عندما غادرنا إلى ربّه الأسبوع الماضي، وهو يحمل معه لقب حكيم
 السودان؟
لا يمكن استيفاء الكلام عن الصادق المهدي (1935 – 2020م) بعيداً عن الأسرة كحاضنة تكوينيَّة، وعن المهدية نفسها كاتجاه اجتماعي وسياسي، يرتكز إلى نسقٍ معيّنٍ من الثقافة والفهم الديني. فعن الأسرة فهي تمتد إلى المهدي الكبير محمد أحمد بن عبد الله (ت:1885م) مؤسس مجدها، وواضع معالم السودان الحديث، منذ أنْ دخل الخرطوم قبل نحو قرنٍ ونصف من
 الآن.وبشأن المهدية فلا يكاد يختلف اثنان حول دورها في تكوين معالم السودان، وانتشاله من الضياع والتبعيَّة والنسيان، وأنَّ نهجها أسهم في إيجاد الهوية السودانيَّة، وتشكيل الدولة الحديثة، وبناء الاجتماع السياسي للبلد. ولم يحصل ذلك كله بعيداً عن منهجها الديني، في جذب الوجدان الشعبي السوداني عن طريق الكشف في المعرفة، والمنحى التربوي الصوفيّ، الممزوج كما يرى بعض الدارسين بثقافة أفريقيَّة هادئة، تميل إلى التعايش والانفتاح على الآخر، ما جعل المهديَّة تعكس مدرسة متميّزة في الواقعيَّة
 السياسيَّة!
تبقى إشارة أخيرة ترتبط بالجانب المعرفي، فشخصياً كنت أعرف أنَّ المهدي عالم ومثقف يجمع بين التحصيلين الديني والأكاديمي، وأعلم أنَّ له مؤلفات، لكنْ هالني حقاً حجم هذه التركة المعرفيَّة، التي تقع بعشرات العناوين من الكتب والبحوث والمقالات والمحاورات، منها مثلاً: الدين والدولة، نحو مرجعية إسلامية متجّددة، الوسطية، الهوية بين التسبيك والتفكيك؛ والكتاب الأهم الذي راجعته، هو: الإنسان بنيان الله!
ـ