«موصل».. جيش من المنتجين.. واختفاء اللمسة الهوليووديَّة
منصة
2020/12/04
+A
-A
بي بي سي
مشهد الخراب المروع هو كل ما يخلد في الذاكرة بعد الانتهاء من مشاهدة الفيلم الأميركي «موصل» الذي بدأت منصة نتفليكس عروضه الجماهيرية الأسبوع الفائت، وقدم على أنه أول فيلم ينطق باللغة العربية، وباللهجة العراقية تحديداً، ينتج في هوليوود.
فمشاهد الحركة والمغامرة التي تنتظم في إيقاع مشوق لشد المشاهدين، ويستند إلى وجود مهمة غامضة لفريق من المقاتلين في قوات التدخل السريع في محافظة نينوى، يتلاشى في نهاية هذا الفيلم مع حل لغز هذه المهمة. كما تتلاشى تلك اللمسة الخياليَّة للإنتاج الهوليوودي لنبقى في مواجهة صورة الواقع القاسية المتجسدة في الخراب الذي لحق بمدينة الموصل العراقية في أعقاب احتلالها على أيدي عصابات داعش الإرهابية والحرب الضارية التي جرت لاحقا لتحريرها.
ومشهد الخراب هذا هو ما يفتتح به الفيلم، مقابل كل مشاهد الفيلم الأخرى التي أعيد بناؤها في مدينة مراكش المغربية بعمل فريق تقني هوليوودي بإشراف مصمم إنتاج فيلم «سيد الخواتم» فيليب آيفي. وقد زود منتجي الفيلم بهذا المشهد المصور عبر طائرة مسيرة (درون) في الموصل المصور أيار رسول.
من الخيال إلى الواقع
ما يميز فيلم «موصل» أنه فيلم مُنتجين بامتياز (وبعضهم مخرجين أيضا)، وكاتب سيناريو في محاولته الإخراجية الأولى، ولا أبالغ إذا استخدمت وصف «جيش من المنتجين»؛ إذ يقدم تايتل النهاية أسماء نحو 18 شخصاً بين منتجين ومنتجين مشاركين ومنتجين منفذين، ومن بينهم المنتج والمخرج العراقي محمد الدراجي الذي ورد اسمه منتجاً منفذاً، فضلاً عن عددٍ آخر من مساعدي الإنتاج موزعين بين أميركا والمغرب والعراق.
والفيلم في الحقيقة هو فكرة المنتجين والمخرجين، الأخوين روسو (أنتوني وجوزيف)، المعروفين بإنتاجهما لأفلام المغامرة والتشويق التي تعتمد على تقديم الأبطال الخارقين «سوبر هيروز» كما في مجلات الكوميكس والتي تحقق أعلى الإيرادات عادة، والتي تنتج عادة ضمن استوديوهات مارفل أو شركة عالم مارفل السينمائية المتخصصة بأفلام وسلاسل مجلات وكتب الكوميكس عن الأبطال الخارقين؛ كما هي الحال مع سلاسل أفلام كابتن أمريكا والمنتقمون.
فقد تحمس الأخوان روسو لإنتاج فيلم عن الموصل بعد قراءتهما لتحقيق كتبه الصحفي لوك موغلسون في مجلة النيويوركر في العام 2017، رافق فيه فرقة من قوات التدخل السريع في محافظة نينوى العراقية ونشره في 30 كانون الثاني 2017، ونقل بعض ما رواه المقاتلون له من قصص تراجيديَّة وقعت خلال الحرب، وبعد أنْ تحمس له أيضا كاتب سيناريو اعتادا على العمل معه هو ماثيو مايكل كارناهان.
وبناءً على حكاية موجزة في هذا المقال، قرر الأخوان روسو خوض مغامرة جديدة بالابتعاد قليلاً عن الأجواء الخيالية والفنتازية التي تدور فيها مغامرات أبطالهما الخارقين، بزرع مثل هذه المغامرة في أجواء الواقع الحقيقية.
وقد أقنع كارناهان الأخوين روسو بأنْ يقوم بإخراج الفيلم أيضا في أول محاولة إخراجية له، فاختارا لإسناده مجموعة كبيرة من المنتجين والمنتجين المنفذين.
وقد عزز هذا الخيار كون كارناهان كاتب سيناريو سبق أن تعامل مع منطقة الشرق الأوسط في أعماله؛ فهو الذي كتب سيناريو فيلم «المملكة» الذي أخرجه بيتر بيرغ في عام 2007. وفيلم «أسود وحملان» الذي أخرجه الممثل والمخرج روبرت ردفورد ويدور جزء من أحداثه في أفغانستان.
مهمة غامضة
بنى كارناهان حبكة فيلمه على ثلاث شخصيات أساسية محاطة بمجموعة من الشخصيات المساعدة، في لعبة قائمة على الغموض والتوقع، تتمثل في تلك المهمة الغامضة التي تخوضها الفرقة القتالية والتي تظل عنصر التشويق الأساسي لجذب المشاهد، الذي لا يكتشف طبيعة هذه المهمة إلا في نهاية الفيلم. وهم الرائد جاسم قائد المجموعة (الممثل العراقي سهيل دباج) ووليد (الممثل الأردني إسحاق إلياس) أحد أعضاء المجموعة الذي تتعلق المهمة به، ثم كاوة صلاح الفيلي (الممثل التونسي أدم بيسا) الشرطي الكردي الشاب الذي يلتحق بالمجموعة.
وقد قدم حلاً ذكياً عبر شخصية كاوه الذي ينضم إلى مهمة الفريق القتالي من دون أنْ يعرف أي شيء عنها. وهو كما المشاهد الذي سيتماهى معه، يكتشف طبيعة هذه المهمة تدريجياً وصولاً إلى الذروة في نهاية الفيلم.
وبعد المشهد الافتتاحي الآسر المصور بطائرة مسيرة لخرائب مدينة الموصل القديمة، يُدخلنا كارناهان في سلسلة من اللقطات القريبة تفتتحها عين تنظر من ثقب في الجدار، في مشهد قتال ضار في حيز صغير، بين اثنين من عناصر الشرطة في محافظة نينوى ومقاتلين من داعش بعد اعتقالهما بعض رفاقهم المتاجرين في المخدرات. وبعد نفاد عتادهما تحدث معجزة بسماع أصوات رمي كثيف يعقبه صمت يدل على مقتل الدواعش الذين كانوا يحاصرونهم في الخارج وليكتشف الشرطيان أنَّ فريقاً من قوات التدخل السريع هو من قتل المهاجمين وأنقذهما.
ومع دخول فريق سوات، يختار الرائد جاسم الذي يقود المهمة القتالية، الشرطي الشاب كاوه للانضمام إلى فريقه القتالي بعد اكتشاف أنَّ عمه قد قتل على أيدي عناصر داعش الارهابي في هذه المعركة، ولنعرف أيضا أنَّ معظم أعضاء فريق سوات هم ممن قتل داعش بعض أقاربهم وأحبائهم ويسعون للانتقام لهم.
ويبدأ كاوه بالتعرف تدريجياً على أعضاء الفريق القتالي الذين لا يبلغونه بطبيعة مهمته، لكنه يراهم يتصرفون بطريقة غريبة، وليعرف من الرائد جاسم أنهم رفضوا تنفيذ الأوامر بالانسحاب إلى مكان آخر وعادوا لخوض معركتهم ضد داعش لأنهم من أبناء المدينة.
وتمضي الأحداث في صورة فيلم طريق قتالي، تبدو المشاهد فيه، في كثير من الأحيان، أقرب إلى ألعاب الفيديو، (حيث يرى اللاعب فوهة البندقية التي يطلق منها النار على الأعداء الذين يظهرون من بين البيوت وفي الشوارع وتجري ضمن إيقاع سريع متوتر).
ويكسر المخرج هذا الإيقاع بمشاهد حواريَّة لأغراض سرديَّة مختلفة، بدا بعضها ذا طابع سريالي، على سبيل المثال عندما يرتاحون في منزل رغم رائحة الجثث التي تفوح منه ويجلسون في غرفة نوم يتابعون مسلسلاً كويتياً تثرثر فيها نساء، ويتناقشون حول زوجات الرجل الثلاث فيه.
ويستخدم المخرج مشاهد أخرى خارج سياق القتال للتعريف بشخصياته الرئيسة، كالمشاهد التي نتعرف فيها على إنسانية الرائد جاسم رغم قساوته، مثل محاولته إنقاذ طفلين يسحبان عربة عليها جثة والدهما وينجح في إقناع واحدٍ منهما وحمله معهم في عربة الهمفي العسكرية إلى الجانب الثاني من المدينة، أو تلك التي تظهره حريصا على تنظيف وحمل كل ما يراه أمامه من أشياء مرمية ومستعملة (يبدو سلوكا مضحكا وسط مشهد الخراب والدمار والموت المحيط به) وينتهي به إلى أن يدفع حياته ثمنا لهذه العادة عندما ينظف موقع قيادة لداعش الذي يسيطرون عليه، وبعد أن يلم ما التقطه من مخلفات (من بينها مجلات إباحية يعثر عليها في المقر) ليضعها في صندوق يكون تحته زناد تفجير يفجر الغرفة كلها.
ولا يتورع كارناهان عن قتل البطل الرئيس (الرائد جاسم)؛ فالبطولة في هذا الفيلم للحبكة المشوقة نفسها وليس للشخصيات التي تؤدي وظائف فيها. فيبرز دور البطل الثاني المساعد الذي يمثل المشاهد نفسه (وهو شخصية كاوه) الذي يتورط بالفعل تدريجيا.
ومع تردد وليد، الذي نعرف لاحقا أن جاسم كان يقود الفريق لمهمة تتعلق بعائلته، يدعوه كاوه إلى قيادة الفريق ومواصلة المهمة إلى نهايتها، حيث يقتحم الفريق القتالي شقة في عمارة ويقتل وليد شخصا نصف عارٍ فيها، ونرى امرأة وطفلة، ونعرف من الحوار أنهما: ابنة وليد وزوجته التي أسرها داعش وزوّجها لأحد مقاتليه وهي الآن حامل منه.
وقد كان مشهد النهاية هذا أضعف مشاهد الفيلم بناءً وأداءً؛ قدم فيه وليد أداءً مغرقا في المبالغة في التعبير العاطفي، وقد اضطر المخرج كما يبدو إلى حذف بعض مشاهده في المونتاج فلا نرى منه في لحظة الذروة الدرامية سوى يده فقط (على سبيل المثال لا الحصر) ولم يظهر وجهه إلا في لحظات خاطفة بدت فيها مبالغته في الإداء صارخة، وكذلك الحال مع من قامت بدور الزوجة، التي جاء أداؤها باردا وبدت حائرة لا تعرف ماذا تفعل أمام الكاميرا.
ولعل العبء الأكبر في إنجاح هذا الفيلم وقع على عاتق اثنين من التقنيين فيه وهما: مصمم الانتاج فيليب آيفي والمونتير أليكس رودريغز، إذ كان على آيفي عبء إعادة بناء مكان الحدث، مدينة الموصل العراقية، في مكان مختلف تماماً هو مدينة مراكش المغربية، (وفر المغرب دعما إنتاجياً للفيلم لغرض التصوير فيه)، وقد اجتهد كثيرا لتحقيق ذلك، فلجأ إلى استخدام الشاشات الخضراء في بعض المشاهد واستخدام تقنيات الكومبيوتر لإدخال تفاصيل المكان عليها، أو حرص على التصوير في تلك الأماكن الخربة للإيحاء بأثار الحرب، وواجه صعوبة كبيرة في تلك المشاهد التي تجري على سطوح البنايات التي يفضح مدى الكاميرا فيها طبيعة المكان المصور فيه.
توجه إنتاجي
ما يحسب لكارناهان في هذا الفيلم هو خروجه من «كليشيه» البطل الغربي الأبيض الذي يذهب مُنقذا في مهمة إلى مجاهل إحدى دول العالم الثالث بعوالمها الغرائبية والغارقة في العنف والدم والاضطهاد والديكتاتورية، (وهي ما قدمه في أفلام سابقة كتب نصوصها مثل فيلمه المملكة)، ليقدم هذه المرة فيلماً؛ أبطاله محليون ويتحدثون لهجتهم المحلية (وقد استثمرت هذه السمة لتسويق الفيلم في المنطقة العربية عند تقديمه عبر منصة نتفليكس).
وواقع الحال أن ذلك لم يتم بمعزل عن أسلوب التلقي في منصة العرض الفيلمي المستمر على الإنترنت هذه، التي حرصت على تقديم خدمة الترجمة بعدد من اللغات فيها، كما حرصت على تطعيم بثها ببعض النتاجات بلغات أخرى (بعض الأفلام والمسلسلات العربية مثلا).
كما جاء في سياق توجه إنتاجي في نتفليكس في العام 2019، إذ قررت أن تقتحم بقوة مجال إنتاج أفلام الحرب أو المغامرات الحربية، كجزء من توسيع قاعدتها الإنتاجية وحضور إنتاجها في معظم الجنرات السينمائية، فإلى جانب فيلم موصل أنتجت أيضا فيلم (اكستراكشن) أي انتزاع أو استخلاص، الذي بدا في كثير من مشاهده أو أسلوبه متشابها مع فيلم موصل (لا سيما قرب مشاهد المغامرة والقتال فيه من ألعاب الفيديو، أو في مشهد البداية المصور بالدرون فوق مدينة دكا في بتغلاديش لينتهي بمشهد قتالي على جسر في المدينة).