قبل أكثر من ستين سنة، أنهى الطالب يوسف دراسته الجامعية، وتخرج بشهادة ليسانس حقوق تؤهله في حالة عدم حصوله على وظيفة ان يمارس مهنة المحاماة، ومع إن رغبته الحقيقية وامنيته التي لا تجاريها امنية اخرى كانت لها وجهة اخرى، ولكن القدر الشخصي شاء لبوصلته ان ترسو عند دراسة القانون... لا بأس – كما كان يحدثني – فمع الايام ومرور السنوات الدراسية بدأت أميل الى هذا العلم، وربما احببته على الرغم مما يتصف به من جفاف
وصعوبة..
بعد التخرج في الكلية استهوته فكرة العمل محامياً (ولهذا عزمتُ وقررتُ قراراً لا رجعة فيه، ووضعتُ قدمي اليمنى على بداية الطريق) وتلك هي البداية المبكرة في حياته، ان يمارس مهنة الوقوف امام القضاة، والدفاع عن حقوق المظلومين، أما البداية الاكثر اهمية وسعادة فتتمثل في إقدام (أول مظلوم) على تكليفه بالمرافعة عنه (كانت قضيته بسيطة، فذلك المظلوم عامل في ورشة نجارة، وقد اتهمه صاحب الورشة بسرقة رنده- أداة حديدية لتعديل الخشب وتنعيمه- سعرها زهيد جداً، وقد استمعتُ الى تفاصيل التهمة، ودرستُ الموضوع باهتمام كبير، كونها أول قضية أتولى الترافع عنها، والنجاح فيها نجاح لمستقبلي المهني).
وهكذا دخل المحامي الشاب يوسف قاعة المحكمة، وهو واثق من أدلته ومن براءة مُوكّله، وصال وجال وابدع، ولم يطل الامر حتى اصدرت المحكمة حكمها ببراءة المتهم، وضجت القاعة بفرح (الحرامي) وأسرته واصدقائه، فيما كان المحامي المنتصر موشوماً بالسعادة، لأنه كسب اول قضية في حياته، ولان طريق النجاح باتت ممهدة أمامه، وغادر الجميع المكان!!
يقول الشاب المنتصر (كانت أحلامي كبيرة، فالنجاح المبكر في تلك القضية على بساطتها، قد لفتت الانظار نحوي، ولا بد ان اليوم الذي سيزدحم فيه اصحاب الدعاوى والقضايا في مكتبي ليس بعيداً) ثم واصل حكايته قائلاً، وهو يخاطبني (تعرف ابو عمار.. إن الاجواء خارج اجواء المحكمة لها صورة اخرى، فقد ارتفعت الزغاريد، وما عدت أدري من أين استقبل التهاني والقُبل وكلمات الشكر.. حتى إذا انصرف الجميع ذهبتُ مع موكلي سارق الرنده البريء الى أحد المطاعم القريبة لتناول الغداء على حسابه، وأمام نشوتي الشخصية بأول انتصار رفضتُ أن آخذ منه درهماً واحداً.. ولكن الذي لم اتحسب له، إننا قبل دخول المطعم واجهت مفاجأة لم تخطر على بالي، فقد اقترب مني وهمس في اذني: تدري ستاد آني صحيح سرقت الرنده.. بس بشطارتك طلعت بريء) وختم المحامي الشاب، الذي قارب الثمانين من العمر وهو يروي لي حكايته، كلامه قائلاً (فقدتُ صوابي في الحال وضربت موكلي ضرباً مبرحاً حتى ادميته لانه جعلني ادافع عن مجرم، واقف ضد مبادئي، وضد القسم الذي اقسمته بعد تخرجي) ومن هنا هجر المحاماة الى الابد وتفرغ الى المهنة التي كان يعشقها بهوس.. رحم الله استاذي وصديقي الفنان الكبير يوسف العاني !!