من أشد المظاهر صعوبة في حياتنا السياسية والنيابية، هي أن تعبر القوى المجتمعية عن نفسها في إيجاد رمز سياسي ومجتمعي عام، يتلاءم مع مقررات السلطات، أو أن تستطيع السلطات إقرار رمز سياسي جامع، يعبر عن اتحاد قوى المجتمع، ولهذا لن نجد منذ سبعة عشر عاما، اتفاقاً على رمزية لعلم او نشيد وطني للدولة،
ما دامت قوى النفوذ والسلطة لا تمثل انسجاماً ولو على نحو مقبول، فالرمز والتجريد، ينشآن في الوحدة والتناغم بين النفوذ والمجتمع، ولم يتشكلا أبداً في الانقسام والتكتل العرقي والطائفي.
على هذا فإن النفوذ والسلطات المنقسمة والمتقاسمة، لا تهب رمزاً جامعاً إلا في حدود استعمال اللغة كتسوية مؤقتة، تفصل بين القيمة الرمزية والقيمة القانونية، لنأخذ مثالاً في الرمزية السيادية لرئاسة الجمهورية، فهذا الرمز السيادي له موقعه في الصلاحيات الدستورية، التي تضفي عليه شكلاً إيحائياً من الاحتفاء العميق، برسالة الأرض والمياه والسماء الوطنية، بعيداً عن الانقسام والتكتل، بمعنى أن هذا الموقع الرئاسي، يقع فوق النفوذ والتقاسم، إلا أن التدافع السياسي والنيابي، يدمجه في الغالب في نطاق تشكيلة المغانمة والمحاصصة، ويسحبه الى مستوى النفوذ، ويعبر عنه في لغة مكررة عشية كل دورة برلمانية، سواء من داخل الرئاسة أو من الرئاسات الآخرى.
ولعل أحد نماذج هذه اللغة المكررة في كل دورة برلمانية، هو التصريح المكررالأخير في الشهر الماضي لكتلة برلمانية متنفذة، ترى أن مصادقة رئيس الجمهورية على القوانين إجراء بروتوكولي ولا يحق له نقض القوانين، ولسنا هنا بصدد حق النقض من عدمه، ولكن من أجل التاكيد على خلق صيغ متكررة نابعة من حدث شبه ثابت، ومتزامنة مع حيثيات مناخ سياسي راهن، يحاول إدماج الرمز عسفاً بالواقع، وموضوع صلاحيات رئيس الجمهورية حسب الدستور، لم يكن جديداً وهو موضع مناقشة وجدل منذ 2005، غير أن إثارة هذا الشأن في هذا الوقت الانتقالي، كما في الاوقات الانتقالية السابقة، يحمل رسالة سياسية بما يوصف بالتدافع بين الرمز والواقع ومفادها بان لا أحد، يقف أمام التدفق الحر للقوانين، وليس هناك من جهة سياسية قادرة على التلويح بتقييد التشريعات من خلال سلطة ما، كما يعبر على نحو معين في إشراك رمزية الرئاسة وليست الرئاسة في عملية تقاسم النفوذ.
ولكن الرئيس برهم صالح في رده على التصريح الأخير، في الشهر الماضي، نفى صراحة أية إشارة له لحق نقض القوانين، على العكس من الرؤساء السابقين بعد 2005، الذين إنبرى مدافعوهم ليجزموا بأن رئيس الجمهورية له أن يتولى حسب المادة 73» ممارسة اية صلاحيات رئاسية أخرى واردة في هذا الدستور»، مؤكدين صلاحيات الرئيس من وخارج المادة 73 وضمن الدستور، بينما ستشترك المادة 66 في النزاع من خلال ما تنص عليه من أن « السلطة التنفيذية الاتحادية من رئيس الجمهورية ومجلس الوزراء، تمارس صلاحياتها وفقاً للدستوروالقانون».
من جانب ثان، لم يواربوا في تضمينهم لقضية أخرى للمطالبة بتوسيع الصلاحيات الرئاسية بالشكل الصريح، من دون النزاع والتسييس والاحتكام الى القضاء، وهكذا.
وبذلك لم يقع صالح في شراك دمجه مع السلطات الأخرى التي تقوم على تقاسم النفوذ، وأعطى في نفيه قيمة رمزية لموقعه الأعلى، بالرغم من مؤداه على قاعدة المحاصصة، وتمكّن من الفصل الدقيق لوجوده بين المجتمع في مطاليبه السياسية وبين السلطة في سياق قراراتها التقاسمية.
وحقق صالح بصعوبة بالغة فهمه الدقيق لسلوك سياسي، ينسجم ويتناغم مع القيمة الرمزية والتجريدية لموقعه بين الدستور والسلطة والمجتمع من خلال التحفظ اللغوي، الذي يبديه عند المصادقة على القوانين، وتبدو نقضاً فلا يخفى على أحد، ان القوانين الأخيرة لا تحتكم في تفويضها البرلماني فقط، وإنما دخل التفويض الجماهيري في ساحات البلاد شئنا أم أبينا، وتلك المعادلة لا نعدمها في التسوية اللغوية، التي تبديها الرئاسة الحالية، بينما لا نجدها بهذا القدر من الانسجام والتناغم في بقية
السلطات.
إنهما – أي التجريد والرمز السياسي- بين الموقع السياسي والدستور والمجتمع، مثل نطق لساني، لايقبل اللثغ أو الزلل، ولن يحتمل إلا اللغة السليمة، التي مصدرها الفكرة الواضحة المعبرة بوضوح عن الواقع.
والفكرة الواضحة لدى ظاهرتنا السياسية هو الدستور غير أنه لا يعبر عن واقع وسلوك الطبقة السياسية التي تتصدى له، ويحدث الفصام في أن الطبقة السياسية، لها لغتها التقاسمية والتوافقية في حين لا يكون النص الدستوري سوى قراءة تطبيقية معطلة، وبذلك فالفكرة الواضحة في سياقات العمل السياسي عندنا، ليس القاعدة الدستورية وإنما التوافقية السياسية في صعيد اللغة المنعكسة على سلوكها السياسي، الذي مصدره فكرة الإنقسام والفئوية.
على هذا الوفق، من الصعوبة الشديدة، تفعيل التجريد والرمز في استخدام مزدوج للغة الدستور إزاء لغة الواقع السياسي، إذ سيصبح النص الدستوري زلة لسانية وسلوكية، يحاول الواقع عبثاً تسويتها على نحو معين بلغة تعاني من شيزو، كلما يزدد عمقاً، ينجلي
وضوحاً.