و.. ماذا عن التلوث البصري؟!

منصة 2020/12/06
...

  ميادة سفر
​للمدن، كما البشر، ملامح وصفات وقسمات تشكل هويتها الثقافيَّة والحضاريَّة، تعكس تراثها وتاريخها والحضارات التي تعاقبت عليها، ومدى قدرتها على خلق الدهشة وزرع الفرح في نفوس الناظرين إليها من قاطنين أو عابرين، وهو ما يشكل واحدة من ركائز جودة الحياة التي تمنح السعادة والراحة النفسيَّة. 
​وكما أنَّ هناك تلوثاً بيئياً أساء للطبيعة والإنسان على حدٍ سواء، وأسهم في تدهور الحياة والصحة، وشوّه الذائقة الجماليَّة، كذلك الأمر هناك تلوثٌ بصريٌّ في الرؤية لا يقل وجعاً وإيلاماً عن البيئي!.. فاليوم يمكن للناظر أو العابر في بعض المدن العريقة التي تضج بالحميمة والدفء، ومنها بعض المدن العربية كدمشق وبغداد والقاهرة على سبيل المثال، أنْ يجد ضوضاءً بصريَّة وتلوثاً مؤذياً، أنتج مدناً وبيوتاً وأحياءً مشوهة، وشوارع عرجاء، ونفوساً قلقة متوترة.
​انتشر في العقود الماضية ما بات ظاهرة واضحة، شوهت الشكل والنسق المعماريين لتلك المدن، فكثرت العشوائيات على أطرافها مشكلة واحداً من أوجه العمران القبيح الذي غزا المدن الكبرى والعريقة، لأسبابٍ كثيرة اقتصادية واجتماعية لا مجال للبحث فيها هنا، وفي ظل تغاضٍ من المسؤولين عن اتخاذ أي إجراء للحد من هذا الزحف الجائر الذي يكاد لا يبقي على أثر من عراقة تلك المدن أو صورتها الحضاريَّة.
​ليست العشوائيات الظاهرة الوحيدة التي اعتدتْ على مدن لها طابعها الجمالي والحضاري، بل دخلت وسائل وأعمال كثيرة «زادت الطين بلة».. ذاك الذي يغلق شرفات منزله بالزجاج لكسب غرفة إضافية، أو يسدل الشوادر الملونة بحجة حجب الشمس والجيران والرؤية، فضلاً عن مشهدية الأسلاك الكهربائية والهاتف المتشابكة بأشكال وصور مخيفة، ولوحات الإعلانات التي انتشرت بطريقة عشوائيَّة.. أما لافتات التعريف بالمهن الوظيفيَّة كالطب والمحاماة والهندسة وسواها فأصبحت تأخذ مساحات واسعة من البناء، ويتبارى البعض في زيادة حجم «آرمة» التعريف به ظناً منه أنها ستجلب ربما زبائن أكثر!.
​يفعلون هذا، وأكثر منه، ضاربين عرض الحائط بالقوانين التي تنظم مثل هذه النشاطات، وتحافظ على جمال المكان والأبنية والشوارع، هذا إلى جانب الصحون اللاقطة وخزانات المياه المنتشرة بشكل رهيب على الأسطح!.. ففي حين تسارع الدول إلى استثمار أسطح الأبنية سعياً وراء زيادة المساحات الخضراء من خلال زراعة بعض النباتات لتحسين الشرط البيئي في ظل التغير المناخي، تتحول عمارات مدينة كدمشق مثلاً، إلى مستودع للخردوات ولواقط البث التي يمكن الاستغناء عنها بكيبل واحد يغذي البناء بكامله.. أما إذا نزلنا إلى الشوارع، فحدث ولا حرج لجهة التلوث البصري، من انتشارٍ مخيفٍ ومؤذٍ لمستوعبات القمامة، والأوساخ المنتشرة في الشوارع والحدائق، والأسواق الشعبية «البسطات» التي غزت الأرصفة والطرقات، ولم تترك لأحد منها نصيباً من الخطوات!. 
​في الوقت الذي تعاني مدننا من التلوث البصري الذي شوه صورتها، ولم يبق من ملامحها إلا خطوطٌ صغيرة لا تعطي أي انطباع عن سماتها وألوانها وحضارتها.. نرى على الضفة الأخرى، دولاً متقدمة تحرص، وبقوانين صارمة، على عدم السماح بالمساس بالشكل العمراني لمدنها، فالأحياء القديمة 
بقيت محافظة على نمطها الذي 
يعود إلى مئات السنين!.. وعندما دمرت الحربان العالميتان أوروبا ومعظم مدنها، أعيد بناؤها كما كانت عليه قبل 
الحرب!..
​السؤال الآن: أين أحياء دمشق القديمة، بغداد، بيروت والقاهرة؟.. إلى أي مدى ما زالت محافظة على عراقتها وأصالتها ودفئها؟!.. سؤالٌ ملحّ ومشروعٌ، تبدو الإجابة عنه صعبة وشاقة، إذا ما استمر واقع الحال على ما هو عليه من تدهور بصري!.. فهل من مجيب؟!!.