كمال محمد.. ترك لنا فناً يشابه روحه دماثة ورِقّة

الصفحة الاخيرة 2020/12/07
...

سامر المشعل 
أشعر أن الكتابة عن الاموات فيها شيء من القسوة، وغالباً تأتي متأخرة بردة فعل عاطفية لسرعة اختطاف اشخاص نشعر بقيمة وجودهم في حياتنا بعد رحيلهم. وانا على يقين لو انهم انصفوا في حياتهم ونالوا استحقاقهم المعنوي من الاحتفاء والتقدير، واحسسناهم باهمية وجودهم، لعمروا اطول من ذلك، ولعل العراق البلد المتفرد في صنعة تمجيد وتبجيل الاموات.
كمال محمد ( 1945 - 2020 ) الذي غادر حياتنا قبل أن تسدل هذه السنة ستائرها والتي اختطفت منا الكثير من الشخصيات التي لا تعوض لرفعة مكانتها، رحل متأثراً بمضاعفات اصابته بفيروس كورونا في الاول من شهر كانون الاول الجاري في الناصرية.
كمال محمد علامة مميزة في الفن والحياة، فعلى المستوى الشخصي، هو يمتلك من الدماثة والتهذيب والخلقماهو من النادر أن تجده في فنان آخر، متواضع ومحب للناس، ينتمي الى مدينته الناصرية بحنين متطرف، قبل سنوات قابلته مصادفة، في شارع الحبوبي بالناصرية، وفرحت بلقائه، واخذ يسرد عليّ ذكرياته مع افراد اسرتي، فنحن أبناء منطقة واحدة، واخذت الاحداث والوجوه تتناسل من ذاكرته الضاجة بالحنين والحب والوفاء الى حد اشعرني بالحرج، فاغلب مايرد ذكره، كان قد تبخر من ذاكرتي، كمال محمد من دون مبالغة كتلة من الجمال الانساني وذاكرة تحتفظ بكل ما هو جميل وانساني. 
في هذه اللحظات شعرت بغربته بعدما غزاه الشيب واصبح يؤطره بالبياض، ويتطابق مع احساسه وقلبه المتدفق بالحب.. حاولت أن اسحبه للحديث عن تجربته الغنائية وابث في نفسه زهو الماضي، فأردت أن اثير فضوله، وقلت بانه يمتلك " قراراً في الصوت نادر الوجود بالنسبة للمطربين العراقيين والعرب لم يتطرق اليه النقاد ". لكنه كان زاهدا في الحديث عن تجربته الغنائية، واكتفى بالرد بانها تجربة من الماضي وطويت. وأخبرني بانه يؤدي فرائض الصلاة والصوم، وكأنه رد ضمني بالاتحاول أن تجرني للحديث عن الغناء ثانية، ثم عرفت بانه قطع عهدا امام اسرته وأبنائه، باعتزال الفن وطلاقه بالثلاث.
 
كمال محمد والشيخ الوائلي
حنجرة كمال محمد مدربة على الاداء المتلون، فمنذ صباه حفظ القرآن الكريم وكان يجوده بطريقة طربية مدهشة ومؤثرة بالمستمع، وبفضل تربيته الدينية اطلع على الطرق الادائية لقراء القرآن الكريم، كان يقلد الشيخ القارئ عبد الباسط عبد الصمد، رغم التفاوت في طبقة 
الصوت.
ومن الاسرار النادرة في حياة كمال محمد قبل احترافه الغناء، أن الدكتور الشيخ احمد الوائلي عندما كان يلقي محاضراته الدينية في مدينة الناصرية في ليالي رمضان، كان يطلب من كمال محمد تجويد القرآن الكريم قبل أن يعتلي الشيخ الوائلي المنبر الحسيني، كي يهيئ الاسماع الى محاضرته.
هنالك حديث نبوي شريف بالسياق ذاته " حسنوا القرآن بأصواتكم فان الصوت الحسن يزيد القرآن حسناً ".
 
مرحلة الاحتراف
في العام 1971 دخل كمال محمد الى الاذاعة، ونجح في اجتياز لجنة فحص الاصوات منذ الاختبار الاول له، وكانت اللجنة تضم كبار الملحنين ومنهم الملحن وديع خوندة والملحن احمد الخليل، واصبح مطربا معتمدا في الاذاعة والتلفزيون.
اول اغنية قدمها الفنان الراحل كمال محمد، كانت " معاتبين " من الحان عبد الحسين السماوي وكلمات محمد عبد الرضا، لفت الانظار الى صوته المميز في هذه الاغنية، وظلت هذه الاغنية علامة مميزة في تجربته، ثم أكد موهبته الغنائية بأغنية " ردي بينا " التي كانت من الحان عبد الحسين السماوي ايضا، وكلمات الشاعر عباس جيجان.
بدأ الفنان كمال محمد مسيرته مع الملحن عبد الحسين السماوي وختمها معه، فلحن له اول أغنية " معاتبين "، واخر أغنية بعنوان " كلشي يهون " التي سجلها العام 1978.
وعلى الرغم من قصر الفترة الزمنية التي ظهر بها كمال محمد وقلة عدد الاغاني التي قدمها في مشواره الفني قياساً بمطربي السبعينيات، الا أنها كانت تجربة ثرية من حيث الجودة والنوعية، واستطاع أن يثبت اقدامه في الساحة الغنائية بخطوات ثابتة، على الرغم من وجود أصوات كبيرة آنذاك مثل ياس خضر وفاضل عواد وفؤاد سالم وقحطان العطار وحسين نعمة وآخرين.
قدم أغنية " يحاجي الناس كله " من الحان محمد جواد اموري، وكلمات جليل العضاض، وأغنية " نسيتك بعد من بالي " للملحن محمد جواد اموري ايضا، ومن كلمات جبار الغزي، وأغنية " دلليني " للملحن طالب القره غولي، وكلمات كاظم الركابي، وأغنية " ما نامت الليل " من الحان محسن فرحان، وكلمات كريم راضي العماري، وأغنية " يلي أغنيلك " من الحان كمال السيد، وكلمات زامل سعيد فتاح،  كذلك قدم اغاني  مثل " ثلاث رسائل " و" ليل ياليل "و " سل الليل عن حالي " واخرها أغنية " كلشي يهون".
 
حنجرة لا تتكرر
يمتلك الفنان الراحل كمال محمد حنجرة لا تتكرر، لديه صوت عريض يمتاز بالرخامة، وقرار فيه جرس طربي جعله يتفرد بادائه وهو ما يعرف بـ" color voice " صوت عابق بالدفء والحنين.
تعامل الملحن عبد الحسين السماوي بذكاء وحرفنة مع صوت كمال محمد، باظهار جمال صوته وعذوبته بأغنية " معاتبين " وأغنية " ردي بينا "، كذلك استفز صوته الملحن محمد جواد اموري الذي صاغ له أغنية " نسيتك 
بعد من بالي "، ووصل معه الى ذروة التعبير الجمالي بأغنية " يحاجي الناس كله ".
ولابد من الاشارة الى أهمية صوت كمال محمد وقدرته على التنويع الادائي وامكانيته في غناء جميع المقامات باتقان ادائي وطريقة تعبير تضيف جمالية للحن الاساس " الميلودي " فقدم أغنية " ما نامت الليل " من نغم الكرد، واغنية " معاتبين " من نغم السيكاه، واغنية " دلليني " من نغم الحجاز، وأغنية يحاجي الناس " من نغم الرست، واغنية " نسيتك بعد من بالي " من نغم صبا زمزم، وأغنية " ردي بينا " من نغم العجم، وبذلك يكون المطرب كمال محمد قد تطرق الى جميع المقامات الموسيقية بتمكن وبنكهة ابداعية متلونة العطاء.
الراحل من مواليد 1945،  ومن الناصرية مدينة الابداع والشعر والحضارة، فكان شخصية مميزة في عطائها الفني والانساني، تخرج في معهد المعلمين في بعقوبة العام 1965 وعمل في حقل التعليم وادار العديد من المدارس على مدى ثلاثين عاما.
عاش بهدوء ورحل كذلك، طبع صوته في وجدان المستمع العراقي والذاكرة الابداعية، وترك لنا فناً يشابه روحه بالالتزام والدماثة والرقة.