غياب التماسك الأسري واندحار المجتمعات

آراء 2020/12/07
...

  د.سلامة الصالحي

 
 
 
نشأت المجتمعات البشرية نشأة أسرية وجماعية، منذ البدايات الاولى وعصر الكهوف، وكانت قوتها تعتمد على تماسكها وتعاونها في مواجهة أخطار الطبيعة ومخاوف الحياة، تسيدت الأم ربة وراعية لهذه التجمعات ومنها الاسرة، فمنذ القدم كان دور الرجل مقتصرا على الصيد وقطف الثمار، والام هي التي تدير ذلك المجتمع الصغير، الذي تحول من الكهوف الى القرى الى المدن وحتى خيم الصحراء وتجمعاتها المترحلة.
بحثا عن الماء والكلأ، هذه الانثى الام ولأنها الرحم الذي يلد ويمنح الحياة المواليد الجديدة، فهي حريصة بطبعها في الحفاظ على حياة ابنائها ورعايتهم وابتكار الطرق الصحية، التي تحافظ بها على هذه الهبة العظيمة، فابتكرت الاعشاب والادوية، لمواجهة مخاطر الامراض التي تداهم أسرتها، واكتشفت الحياكة والخياطة، لعمل ثياب لهم، وابتكرت فنون الطبخ والزراعة لتطعمهم، وهي أول من سن قوانين العدالة، التي طبقتها على أبنائها من دون أن تفرق بينهم.
تكون المجتمع من هذه الاسر وبدأت الحضارات والثقافات التي أخذت بيد البشرية  نحو التطور والتقدم، وبطبيعة المرأة التي تنزع الى السلام والامن، فان الحضارات التي قادتها النساء بقيت من دون ان تهدها الحروب وتستنزف ثرواتها النزاعات المريرة والقاسية، فقدان العدالة والحروب التي تشنها الارادات الذكورية وما يترتب على طموح البعض بالتوسع وتحقيق  امجاد وهمية، عبر شن الحروب والنزاعات الداخلية، منطلقين من عقد عقيمة هددت مستقبل البشرية في كثير من الاحيان، هذه الحروب والنزاعات والصراعات تنعكس اول ما تنعكس وتدحر المجتمع، بدءا من الاسرة وأولها المرأة، فيذهب الرجال للحروب ويبدأ الاقتصاد بالتراجع، وتعم الحاجة والفقر والعوز الذي يؤدي بالمجتمع الصغير اي الاسرة الى الانهيار والتفكك، وهنا تبرز اهمية مراقبة المجتمع لمن يقودونه ويؤدون به الى مهالك الهاوية والتأخر عن ركب البشرية وورشة التطور والتقدم الكونية، التي قطعت شعوب العالم المتقدم فيها شوطا طويلا.
نعود الى مجتمعنا العراقي الذي تنهاشته الحروب والصراعات وفرضت عليه الارادات الدولية حصار وتعويضات استنزفت اقتصاده وثرواته واستقراره، وبدأ هذا التآكل في بنية المجتمع العراقي منذ أواخر السبعينات، عندما بدأت السلطة الحاكمة بموجة الاعتقالات والاغتيالات والتغييب القسري وهروب كثير من الشباب الى المنافي ومواجهة المجهول، بسبب غياب الحكمة السياسية، وتولي افراد بلا ضمير مصير هذه البلاد، أعقبتها بعد ذلك الحروب التي كانت الضربة القاصمة لتدمير هذا المجتمع وخلق مجتمع مغاير، باحثا عن الامان المفقود والطمأنينة، التي غادرت ووصوله الى ان  يكون ضحية لمؤامرات دولية ومحلية، قتلت في داخله أشياء مهمة وكثيرة، وأوصلته الى بيع مالايمكن بيعه، فسقطت في الوحل أناس كثيرة فتفشت الرشوة، وتشرعنت سرقة المال العام منذ التسعينات، وهذه من اقسى وأخطر مراحل سقوط الدول والمجتمعات، حيث تتغيب العدالة، وتصبح كل الاشياء مقابل ثمن، مؤديا بدوره ان تنخر هذه الأفة ستر المجتمع واحترامه لذاته ونقاءه، مخترقا الأسرة التي بدأت بتقبل الامر رغم خطورته الاخلاقية، وصار شائعا أنه نوع من الشطارة والذكاء الغبي الذي يأخذ الفرد والأسرة الى نهايات غير سعيدة حسب ميزان الكون ورقابة الحياة، فتتفكك الأسر وتضيع الابناء تحت مسميات كثيرة، فمن أجل المال لابد من التضحية، رغم ادعاء التدين ومظاهر التقوى الكاذبة، فمفهوم الدين للاسف صار مغلوطا، فلم يعد يعني الزهد والتعفف عن المال الحرام، بل صار نوعا من الزيف الذي يبدأ بثياب معينة الى اكسسوارات ومظاهر على الوجه، وفي هذا الخضم المضطرب، ضاع الشباب تحت وطأة المحسوبية والمخدرات والعلاقات الشائنة، ودخلت الينا قيم انحلال وتفكك لم نعرفها من قبل، اذ لو كان المجتمع حريصا وسيد نفسه ويمتلك من الوعي والايمان الحقيقي، لكان من السهل مواجهة هذا الفيض الهائل من الرغبة غير السوية في الثراء والجاه والرفاهية، حتى على حساب حياة ووجود الاخرين وكرامتهم، بدأ هذا الانهيار من رموز السلطات الجائرة، التي تعاقبت على البلاد، ووأدت نهضة مجتمعية كان من الممكن ان تكون بلادنا من أرقى وأفضل المجتمعات في العالم، ولكن الطموحات السياسية، ورعونة الاشخاص الذين تولوا مصير البلاد ومحدودية الوعي وغياب الحكمة الانسانية وفهم الحياة، أدى الى ان يتحول هذا المجتمع الجميل وبعد تخريب ممنهج للوعي، الى مجتمع قطعاني يتبع من دون فهم ودراية الى تحقيق اهداف ونزوات الحمقى، كل ما يمر به العراق ومر به من ارهاب ممنهج وتخريب في البنى التحتية الرصينة  للقيم المجتمعية. 
كان يقف خلفه اندحار الوعي وشهوات الثراء أو توفير متطلبات الحياة المتسارعة وغياب الافق والنظرة الحقيقية للحياة، لا أطالب الناس بالتقشف والتعفف الجائر، بل أطالب بمجتمع ينقي ذاته من براثن الطمع والمظاهر الكاذبة، والتحلي بقناعات وقيم جميلة، واحترام الفرد واعداده اعدادا سليما داخل الاسرة، لان المجتمع هو حزمة من هذه الاسر والافراد، وبناء الفرد بناء صحيحا جديرا بأن يخلق جماعات صحيحة، تقضي أوقاتها في الارتقاء بالعلم والمعرفة والثقافة وتطوير مهارتها في الزام الاولاد بدخول دورات في التقنيات والورش الميكانيكية وتفريغ الطاقة الفائضة في الاشتراك بمراكز الشباب والفرق الرياضية على مستوى الشارع والحي والمدينة، للتشبع بالمتع البريئة والانفلات من فخاخ الادمان والعادات الرديئة، وقتل الوقت الثمين في مقاهي استحدثت حديثا ووفدت الينا لتجد ان البنات والاولاد، وقد أحاطتهم سحب الدخان المتطاير من ناركيلات اقل مايقال عنها انها منظر غير صحي وغير حضاري، التفكك الاسري يعني غياب رقابة الأسرة عن الاولاد والبنات، وهم يرتادون صالونات الوشم وتشويه الاجساد والتي دخلت الينا، بعد ان كانت مهنة الغجر الجوالين، وقد عفا عليها الزمن وللعلم فان الوشوم هي احدى علامات القضاء في تمييز المجرمين، من دون ان نغمط حق الناس في انها حرية شخصية، ولكن هذه الحرية الشخصية، لا تبدو انها ذات منفعة، جمالية او صحية او حتى ثقافية، وايضا  غياب الرقابة الاسرية، أدت الى تفشي الجريمة والهروب من المنزل والالتحاق بالمجاميع الارهابية، والوقوع في قبضة تجار البشر، سواء كان دعارة او ارهابا، كل هذه الاوضاع الشائنة تحتاج بجملتها ليس الى أسرة واعية وقوية ومتماسكة، فحسب  بل الى قانون قوي ايضا ومتابعة من الدولة، وهنا تتشابك الاشياء، فالفرد المنحرف والمرتشي والمزيف سوف لا يكون للقانون والالتزام الاخلاقي شأن لديه، وهنا تسقط المجتمعات، وتواجه الخطر، ونعود ثانية الى أهمية دور الاسرة ووعيها وتربيتها الصحيحة للفرد... يتبع