المدن المحررة بالأرواح نسعى لانتصارها ثقافيا

ثقافة 2020/12/09
...

صلاح حسن السيلاوي 
الانتصار على داعش، فاجأ العالم بقدرات الفرد والمجتمع العراقي، ومهّدَ الحياة لصناعة انتصار معرفي وثقافي، انتصار يمكن من خلاله كشف الأسباب المؤدية إلى تغلغل غربان الموت في سماءٍ دون أخرى، انتصار يلاحق جيوش الظلام ويفتش عن أسباب مداهمتها للمفاهيم والقيم الإنسانية.
بعد نصر قواتنا الأمنية على الدولة أن تؤسس لمشروع  يستهدف دراسة ما حدث من خرق قيمي، يقدم أجوبة تفصيلية عن أسئلة، الموت الذي تمشى على أجساد الأبرياء بحجة الدفاع عن الدين تارة، وإعادة أمجاد الماضي تارة أخرى.
الدولة التي تريد ديمومة انتصارها عليها أن تتفهم كيفية خروج هذه الجماعات من سطور الاساطير والخرافات، عليها عبر مؤسسات بحثية أن تنفض غبار التواريخ عن وجوه المعاصرين، وتكشف عن الدواعي التي جعلت ثقافات متحجرة، مقبولة لدى شرائح إنسانية تعيش واقعاً مختلفاً عنها.
أهو خلل في أعرافنا وتقاليدنا ومفاهيمنا الدينية أم أن ما حدث هو صورة لما ينتجه واقعنا التعليمي والتربوي؟ واقعنا الذي جمّلَ ماضينا ولم يتفحص سلبياته، حتى أصبح بعضنا يحلم بالعيش في حصون التاريخ وتنفس حماساته وخوض حروبه؟.
ألسنا بحاجة الى تفهم تلك الثقافات التي دفعت هذا الانسان( الداعشي )، ليتحول إلى وحش يأكل أبناء جنسه، من أي نافذة في وعيه تسرب كل هذا الخراب؟اعتقد أن الانتصارالعظيم الذي حققه أبناؤنا بما سكبوه من أعمارهم على التراب حتى أحمرَّ لونُهُ، يجب أن يتحصن بدراسات موسعة عن الظروف التي أدت إلى كل هذه الخسارات في البنى الإنسانية والتحتية.
دراسات تقدم لنا سقوفاً عالية من الفهم لواقعنا وعلاقاته الإقليمية، ومدى تأثر هذا الواقع بمشكلات محيطنا الثقافي والسياسي والاقتصادي.
ارى أننا لا نملك قاعدة بيانات لما يتحرك في مشهدنا الاجتماعي من ظواهر، فلا المؤسسات الثقافية قادرة مالياً على أن تنجز مثل هذه المشاريع، ولا المؤسسات التعليمية والبحثية كالجامعات تمتلك مشاريع متكاملة في هذا الصدد، ولا رؤوس القوم في دولتنا يسعون الى تحقيق أمن ثقافي ومعرفي تُفهم من خلاله الأخطاء ويبحث فيه عن الحلول لمشكلات بناء الإنسان ووعيه لتتجنب الدولة خسارة الفرد وتصون ذاته عن أي  انكسار بسبب جهل او فهم خاطئ للحياة.
اعرف ان هذا المشروع كبير جدا، لا يمكن للدولة أن تحققه بسهولة ولكن يمكنها أن تبدأ وأن تفكر بكيفياته، التي أجد أنها تحتاج إلى خبراء في مجال التعليم والتربية ومؤسسات الثقافة والفن بشكل عام، لتتحول الدولة بشكل كلي الى معالجة الخطأ بالوقاية منه قبل الوقوع فيه، لا أن تعمل على تدعيم القانون فقط، فالعقوبات مهمة  لكبح جماح المتشددين، ولكن الأهم هو كيفية تضييق المفاهيم التي يمكن لهم أن يحيون داخلها وأن يتوالدوا فيها .
الانتصار الثقافي الذي أطالب بتحقيقه يستوجب التخلص من المؤثرات في ثقافة الفرد كمفاهيم التكفير، التي أسهمت بسقوط المدن على يد حفنة من الظلاميين، كما يستوجب عقد مؤتمرات بحثية لمناقشة ما جاء به الدواعش وما تركوه وراءهم عبر سنوات وجودهم علناً وسراً بين شرائح المجتمع وتفحص جذورهم ومدى تغلغلها في أرض الدين أو الأعراف، والكيفية التي يمكن من خلالها تنقية الثقافات من شوائب التكفير والتشدد والموت . 
على الدولة أن تعترف بأنها لم تعمل على صناعة أمن ثقافي، يبحث في منابع الثقافات التي تشكل وعي وذائقة الأفراد داخل المجتمع.
النصر الذي تحققه الأسلحة والدم يحتاج الى نصر مماثل تحققه الأفكار لتحصن الذات الانسانية من مهاوي الخراب الكثيرة.
يجب الآن على الجامعات العراقية أن يكون دورها رئيسا في تقديم أجوبة عميقة عن الأسئلة التي يطرحها الفكر عن مسببات التردي الانساني  وجذوره والكيفيات التي عزلت جماعة عن مضامين زمنهم وسجنتهم داخل فترة زمنية متحجرة، حتى صاروا داعشيين واصبح المبصر يراهم خارجين عن الزمن من جرة مكسورة.
النصر الذي تحقق كان عظيما بكل المستويات ويجب الحفاظ عليه عبر اجتثاث كل ثقافة تحاول بذر مفهوم ظلامي في طرق النور، التي أضاءها الرجال بما غرسوه من اعمارهم في طرق ابنائنا وهم يحملون حقائبهم الى المدارس.