في هذه الأيام لا نكف عن التفكير في ما سيحدث لو أن جائحة وباء كورونا تلاشت وعادت الحياة إلى سيرتها الأولى، ترى ماذا سنفعل وماذا ستكون مشاعرنا وكيف سنترجمها على أرض الواقع؟
أقرأ الكثير من الأمنيات لأناس لا أعرفهم يكتبون على مواقع التواصل الاجتماعي أو في تعليقات تذيل الأخبار الخاصة بآخر مستجدات فيروس كورونا التي تنشر على مواقع الصحف العالميَّة، عن مدى الحماس الذي يسكن مشاعرهم المتوثبة للخطوة المقبلة؛ الخطوة التي يخطوها عالمنا الأسير خارج جدران سجنه الذي استمر قرابة العام، أياً كانت أسبابها ومبرراتها سواء بإتاحة اللقاح لملايين البشر أو لاقتراب نهاية الزمن الافتراضي للفيروس وبلوغ دورته في الطبيعة مرحلة النهاية.
أسمع هؤلاء الغرباء وهم يرددون عبارات فرح مكتوم وهم يقولون: «قريباً سأحضن أهلي وأحبائي في العيد، قريباً أستطيع الاستمتاع برحلة سياحية جديدة، قريباً سأستقل الطائرة وأتجول في المطارات وفي أماكن التسوق، قريباً شأشارك في مهرجانات التسوق وأستمتع بعروض مسرحية وأتذوق أطباقي المفضلة في المطاعم وسأقضي ما شاء لي الوقت في طاولة مقهى يطل على شارع تجاري يعج بالمارة، من دون أنْ أنشغل بالقلق وأتلفت كل لحظة وأنا أنظر للناس بريبة من خلف قناع يغطي نصف وجهي».
لكنَّ الأمر لن يكون بهذه الصورة أبداً. هذه هي النتائج الأولية للدراسات التي خرج بها بعض المشتغلين في حقلي علم النفس والاجتماع، فالعالم بعد كورونا لن يكون بالتأكيد العالم نفسه قبل كورونا. هذه النبوءة المزعجة التي صفعتنا في بداية الأزمة أخذت تتبلور كحقيقة لا غبار عليها، فقد تغيرت الكثير من الأشياء في حياتنا التي لن تعود مجدداً إلى سابق أيامها، كما أنَّ الأزمة المريرة التي واجهتها أرواحنا؛ آلام الفقد، آلام القلق والخوف والجزع، الخوف من تكرارها وربما توقع ما هو أسوأ ستترك لا محالة بصماتها الواضحة على شخصياتنا وأسلوب حياتنا حتى آخر لحظاتنا على هذه الأرض.
يحدث الأمر ذاته عندما يخطف منا الموت شخصاً عزيزاً أو قريباً، وبعد صراع مرير مع الذكريات واختبار مشاعر الفقد الموجعة.. يتوقف تأثير لحظة الفقد ذاتها فتمضي أيامنا على شاكلتها الأولى وتستعيد عجلة الحياة اليومية عافيتها، لكننا لن نعود كما كنا في السابق؛ هناك شعلة ما انطفأت في قلوبنا.. شيء لن نستطيع استعادته وحتى مجرد مروره الخاطف كذكرى قد يوقظ فينا مشاعر الفقد الأولى ذاتها، نعم، الحياة تستمر لكنها ليس الحياة التي نعرف.
بمرور الأيام، تنفخ رياح الزمن على المزيد من شموع أحلامنا ومع كل فقد تُثلم قطعة من أرواحنا فلا تعود الصورة إلى سابق عهدها كما كانت مكتملة أول مرة. هكذا، حتى تتراكم الخسارات، واحدة تلو الأخرى بصورة عشوائيَّة، فالخسارات لا يمكن ترتيبها بمدى أهميتها لكنها ترتب بالتقادم فتركن الخسارات القديمة في رفوف الذاكرة البعيدة بينما تتقدم الخسارات القريبة وتأخذ أماكنها في الصفوف الأماميَّة حيث تستقر الندوب النفسية، حتى تأتي خسارة جديدة قاسية لتحل محل كل ما سبقها بقوة تأثيرها وقسوتها.
في الغالب، لن تعود الحياة كما في السابق أو أننا لن نكون الأشخاص أنفسهم الذين كانوا قبل بداية الأزمة. فهل هذا ما يسمونه الحكمة؟
نعم، تقول سارة شوالتر تونجرين؛ وهي باحثة اجتماعية – أكلينيكية متخصصة في العلاج السلوكي المعرفي، من ولاية فيرجينيا الأميركيَّة بأنه «من الضروري لنا أنْ نتخلى عن طرق فهمنا القديمة تجاه هذا العالم، بدلاً عن ذلك، يتوجب علينا أن نتعلم من تجاربنا، إذ إنَّ معظم المشكلات والصعوبات التي تعوق يومياتنا ومسيرتنا في هذه الحياة تدور حول عدم قدرتنا على تقبل الواقع كما هو، فنتجه للبحث عن يقين مسبق ووقائع وتوقعات مسبّقة وصولاً إلى النتيجة التي نود أنْ نصل إليها في الغالب، هي أنْ تكون الحياة عادية ونعود إلى سابق عهدنا بالأشياء، فهل هذه أمر واقع؟ وكيف يمكن أنْ تعود الحياة إلى طبيعتها.. هل هذا هدف يستوجب السعي من أجل تحقيقه؟».
لعلَّ بعض الانشغالات في حياتنا اليومية قد حجبت عنا شبح الوباء ولو مؤقتاً، فنحن نتابع الأفلام والبرامج على التلفزيون ونتواصل مع الأصدقاء والأقارب عن طريق الهاتف، نؤدي
أدواراً اجتماعية في مواقع التواصل الاجتماعي ونعد وجبات طعام لذيذة، لكنَّ هذا لا يعني بأنَّ عاصفة الوباء لم تطوحنا بين حدث وآخر ونأتي لنتصرف – بعد انتهاء الأزمة- وكأنَّ شيئاً لم
يكن. لا يمكننا أنْ نمحو آثار الأزمة فحتى أجسادنا قد تتخلى عنا في أي لحظة مقبلة لم نحسب لها حساباً، العودة إلى الأيام الطبيعية لا يعني أننا نجونا.