ياسين طه حافظ
موضوع الذات المؤكد عليه في عصرنا، يقابل اللا ذات المتماهية مع خارجها، والكلام عن سعي الانسان للتحرر مما يتحكم فيه، ما يمنع من وجوده فرداً حياً وحراً. وهذا طبعاً يتطلب التحرر من كل التسلطات الرسمية وتلك التي تبناها المجتمع. فالذات إذن في المجرى الكبير الضخم وتريد طريقاً خاصة في خضمه.
ذلك جعلنا تاريخياً، بين فكرين الفكر البوذي الذي يؤكد اللا ذات وعلى ان تُرهن الذات في الكون، فلا فرادة بعد، فهي غير مبالية وربما لا منتبهة. هي روح نقية ساكنة.
هذا اتجاه في التفكير له ساعة تفضيله. لكننا في المجتمعات المعاصرة لا نستطيع الرضا بذلك التفكير، فهو غير منتج وغير مجد في الحياة العملية، نحن اليوم نستطرفه، نراه حِلْية او مثالاً مما جاء به تاريخ الانسان ومما ورثته الشعوب المدانة بتخلفها وأننا نشيد به احياناً غير مقتنعين بمنطقيته او جدواه.
وهناك الفكر الغربي السائد والذي على العكس من الفكر البوذي يؤكد الذات ضمن تأكيده على الفرد، ويدّعي العمل لاسعادها، لان تقتنع فترضى. لكن كِلا، الذات واللا ذات، استخدمتا في العصر الحديث بشكل آخر اختلفت فيه الدلالتان. فكر اللا ذات اريد به التضحية بمطالب الأنا ونكران الاهواء الخاصة وكل ما يؤثر سلباً في انجاز العمل الجمعي وفي انتاجيته، وهذا اتجاه واقعي، سحب المثال من اجوائه الغيبية، والاسطورية القديمة الى الواقع الجديد. وخلال هذا “السَحْب” أمات الروح القديمة، او سخّرها لرؤية ومقاصد ملموسة. ايضاً، وفي فرصة اخيرة، ابقوا للا ذات دلالات اخلاقية، فصار هذا الفكر يعني الابتعاد عن التملك والأنانية والسلطه وما وراءها. لكن الفكر البوذي ظل فكراّ بوذياً لان تلك هي طبيعته وله سدنته الذين تربّوا اخلاقياً وعقدياً عليه.
على العكس من الفكر البوذي، عموم الفكر الغربي يؤكد الذات بصيغة “ الانا”، لكن هذا التأكيد خسر ايضاً فضيلته او حقيقته! اذ راح يؤكد في وسطيته أو في ادنى مطامحه، ان يعمل الفرد بطريقته ويلبس بذوقه وتكون له اختياراته في اعداد الطعام واختيار السكن وان تكون له وجهة نظره، في ما يخصه وفي ما يراه حوله.
الملاحظ، ان ذلك هو ما يشيع اليوم في تفاصيل الروايات الحديثة: الذاتيات ومتعلقاتها، رغبات الشخوص، التقاطعات دونها، إجراءات التحديد أو المصادرة. ليس بلا سبب ان الرواية مهما اختلفت مضامينها، تحركها هذه الهواجس وهذه الهموم باتجاه غاياتها المركزية! والشعر، الاكثر حساسية ذاتية، لا يكاد يخرج من انشغالات متعلقات الانا سواءً تذمر او مدح او تخلى او رغب فخاب. ويكاد الرسام يترك ذاته لتقول على اللوحة كل شيء أرادت او تريد.
لاشك بأن يتمكن الادب والفن والتعبير عن حقائقنا المضمرة، هو تقدم في الوعي كما هو تقدم نفسي وتربوي. هذه انعطافه كاملة الى التحضر والتقدم فيه بعيداً عن الامر والنهي، بعيداً عن التسلط والردع.
كما ترون في الفقرة الاخيرة، جعلت التسلط خاتمة قولي، ذلك لأنه سيصلنا بموضوع الحرية، وهذا هو ما اتجه إليه في هذه الكلمات، فلا ذات متحررة من كل ذلك، وتحيا على رسلها. لا حرية تتيح لها مثل ذلك.
كما ان تحرر الذات لايمكن ان يتم بعيداً عن هذه الاخلاقيات وضرورة تطورها هي ايضاً، صعب فصلها إلا بتدمير المعنى او مسخه، نحن في كل حال نريد الحديث عن الذات يصير حديثاً عن التمرد والخروج عن القانون او القوانين، إذ لا نريد اوامر او نواهي.
هذا الإشكال تمّ حله في ما قلناه، أن أحيا بطريقتي الخاصة ضمن عالم الآخرين. معنى الكلام، في اداء العمل في مؤسسة او مصنع وهما محددان فنياً وادارياً، يُفسَح المجال لأن تكون لي افكاري ووجهات نظري وذائقتي، و لكن اين هو المجال المتاح لذلك؟
ما اردناه يصطدم بما يعيق ويصد من دون تحقيق الذات لاختياراتها، ونتيجة تعدد أو استمرار الإعاقة، نفاد طاقة التحمل ونتيجة نفاد طاقة التحمل، هي التمرد، التمرد على صاحب العمل، على المؤسسة، على صاحب الحانة، على المعلم، وسائق الحافلة ! هذا التمرد هو الذي افادت منه السياسة و استخدمته لانجاز برامجها. لقد صودر الذاتي ! استحوذت السياسة على الامتياز الفردي قبل ان يكتمل وقبل أن يراه أحد !
لكن بقايا روح التمرد تنبت ثانية في التنظيمات السياسية والجمعيات، ولذلك أقول: كل التمردات والانشقاقات ذاتية الجوهر! المهم ان السياسة وظفت حس الرفض او حس التمرد أو الاستياء الفردي في مشروع أوسع، هذا المشروع نافع وكريم لعموم الناس، وطبعاً الفرد واحد منهم. لكنه، يظل طريقاً مسدوداً لدرجة كبيرة امام تفرد” الذات” ونزوعاتها. فهل الآن، وقد وصلنا الى ما وصلنا إليه، ندين “ الذات” ام ندين حراكاً حياً لفائدة الناس، كما لتحريرهم من احتياجات العيش؟
لا احد يفضل واحداً على حشد ولا فرداً على مجموع. وهذا حكم اخلاقي علمي على كل حال، فما الحل ؟ الحل توفيقي دائماً، أن تكون الذات
عاقلة ( وهذا يعني منضبطةَ !)، حكيمة تسهم في المشروع الكبير وبإخلاص خاص، وحب خاص ونظر دقيق خاص وكفاءة خاصة، ان تكون ذاتاً متميزة ضمن ذوات وقوانين غير معادية، لكن هل يمكن أن تكون غير معادية دائماً ؟ صعبُ أقول نعم ! لكن، بأسف، أقول: حتى الآن خاب الرهان الصعب.