أنيتا لاهي
ترجمة: جمال جمعة
عندما أشعر بضيق شديد، غالبًا ما أقرأ النثر، وليس الشعر. هنالك شعور عام بأن الشعر يوفر العزاء، وثمة حقيقة في ذلك. لكن هذا النوع من العزاء المعروض في القصائد ليس من الهيّن (بالنسبة لي) الحصول عليه عادةً مثل بطانية (أو ذراع) تُلقى على الكتفين. إنه أشبه بالنار التي في الموقد حيث يجب أن تغادر سريرك في البرد القارس كي تدفئ نفسك، وقد يتطلب ذلك تقطيع بعض الحطب أولاً، والتخلص من الرماد، بل وحتى الأعمال الروتينية العويصة والخطرة المتمثلة في كنس مدخنة وسخة. ولكي أشق طريقي إلى المكان الذي ينتظر فيه العزاء في القصائد، أحتاج إلى احتياطيات الطاقة العقلية والعاطفية، أحتاج إلى الشعور بالرغبة في الانزلاق من دون تردد إلى داخل الحفرة التي تكمن منتظرة في مركز القصيدة، والتي يصفها شيموس هيني بأنها «صعقة لا يمكن التنبؤ بها لعالم الكينونة المحض».
في قصة قصيرة بعنوان «السقوط»، لكارولين أدرسون، كاتبة من فانكوفر، والتي تظهر في مجموعتها المشوّقة (والفكاهية) Pleased to Meet You، يستقلّ وكيلُ التأمين الحافلة في طريقه إلى عمله صباح أحد الأيام وبالصدفة يقرأ إحدى القصائد، معتقداً في البداية أنها إحدى الإعلانات. كان مندهشاً جدًا من وجودها هناك، متفاجئاً للغاية من اكتشاف أن الناس ما زالوا يكتبون الشعر، حتى أنه قرأها مرارًا وتكرارًا، متحيّرًا. نزل عند محطته وسار نحو مكتبه، وازداد قلقه طوال الطريق من حقيقة أن الحافلة قد غادرت مع
القصيدة.
استعاد سطرين منها في ذاكرته (حول السقوط) وتلاهما على امتداد طريق المصعد نحو الطابق السابع والعشرين. أملاهما على موظف المكتب، بعدها ترك كلاهما جسديهما يتكئان على النوافذ الممتدة من الأرضية إلى السقف. نظرا إلى الأسفل. يداه فوق الزجاج تتعرّقان. في وقت لاحق استدعى هذه اللحظة في المنام، باستثناء أنه في عالم الأحلام لم يلحظ أن النوافذ أزيلت في الوقت المناسب. عند السقوط، يستمتع في حلمه بالريح تهبّ على وجهه: إنه يشعر بالأمان لمعرفة أن القصيدة ستمسك به.
أنا أعيد صياغة هذه القصة على مضض (لقد روتها كارولين بشكل أفضل) لأنّها تمسك بما يمكن أن يحدث عندما يلج شخص ما داخل القصيدة. القصيدة في البداية تهزّ وكيل التأمين وتوقظه: إنها تؤدي وظيفة القهوة التي تمنى لو كان يشربها. ثم يفزعه حضورها ومنعتها البادية للعيان. ومع ذلك فهي تأسره تحت نوع من السحر. إنها قصيدة قصيرة، مثل كل قصائد الحافلات: قرأها خمس عشرة مرة. وعلى الرغم من أنه لا يستطيع تذكر معظم الكلمات، إلا أن القصيدة شقت طريقها إلى داخله.
أثّرت على تفاعله مع زميله، وزوجته، وابنه. إنها تجعله يمد يده (إلى العالم، إلى شخص غريب) بطريقة لم يكن يتوقعها أبدًا. بعد قراءة القصيدة جلبت له الراحة في النهاية، جنباً إلى جنب مع نوع من الرعب، مشوبًا بشيء لا يستطيع تفسيره. إنه يحتاج إلى القصيدة، يبحث عنها، وفي النهاية يكمل ملء الفجوات في ذاكرته (والاستجابة للحظة فعّالة في حياته الشخصية) بسطر قد ألّفه هو بنفسه من دون أن يدري.
عندما أصادف قصيدة لأول مرة، خصوصاً تلك التي تستحوذ عليَّ، أدرك بشغف أنني ألتهمها كلها في القراءة (أو القضمة) الأولى، والثانية، والرابعة، وأحيانًا حتى العاشرة، مميزةً منها المكونات الأساسية فقط عند مضغها، وفقط النكهات الأكثر هيمنة. تتفاعل القصيدة في داخلي بطرق شبه مُدركة لها، وبالكاد أستطيع التعبير عنها. ومع ذلك، فإنها تملؤني: تبعث أحاسيس تشبه التوت الأحمر البارد وهو يتفتت بين الأسنان، والحرقة الدافئة للويسكي المنسرب في الحنجرة. «الحبر ينساب من زوايا فمي»، كتب الشاعر الأمريكي مارك ستراند في واحدة من أفضل مؤلفاته على الإطلاق، “ليس ثمة سعادة تشبه سعادتي / لقد تغدّيت شِعراً”. كلما قرأت ودرست الشعر أكثر، ازددت فهماً لطبقات ودقائق أفضل القصائد، وكيف أنها تصبح وجبات غنية مستحيلة، وتقدّم أطباقاً طازجة إلى أن تتساءل عما إذا كانت الصحون والصواني ستتوقف عن الانسياب والقرقعة في وقت ما. سأظل أهضم هذا الغداء لأيام، لأسابيع، وفي بعض الأحوال لسنين.
لا أقصد بهذا تخويف القارئ العابر، لكن مع ذلك، احذرْ: قراءة الشعر ليست فعلاً سلبيًا. إن استهلاك قصيدة هو التزام ذو عواقب غير متوقعة، يتضمن كل شيء. الاستعارات ترن ويتردد صداها. التعابير تتحول إلى حشرات طنانة في أذنيك. الصور تنغرس. مرفقة بكل هذا: إحساس بالقوة والمعنى تستشعره لكن لا يمكنك تحليله تمامًا. أنت محتجَز. وثمة عمل يتعين عليك القيام به. يمكنك إغلاق الصفحة الأخيرة من مجموعة شعرية، لكن لن تتمكن أبدًا من أن تقول لنفسك: «ها هنا انتهت القصة».
إن نهاية القصيدة ليست نهاية أي شيء على الإطلاق.
The Walrus