تداخل النثر والشعر في ديوان الشاعر ريسان الخزعلي (إنصات.. عن بعد لما فات من العزف) مبني على التناسق. والشعر بلا ضوابط ولا قياس سيصبح مسخا بلا أصل ولا أسرة، وتغيب عنه الدقة باختيار المقادير، فإنه سيهلك لا محالة، وكل مزيج مهما كان، وأيا كانت الطريقة التي مزج بها سينفصل، كما يقول سقراط.
ما يميز قصائد الخزعلي الألم، بوصفه محركا للإبداع، ومحفزا لفتح الشهية على كل متع الحياة، والعاقل عندما يختار المسرات بأسلوب فكري وأخلاقي رفيع، مشذّبا كلَّ غريزة جامحة ومروّضا لها بشاعرية.
الشاعر مركز القوى الفاعلة وكيان لكل افكار العالم وروح مثالية هائمة الى الأبد، وطموح لا يحدد في مقاسات معينة، وبحث متواصل عن كل قيمة عليا من أجل التفاني وإدراك الهدف، وفي ذروة المعاناة ثمة بهجة غامرة. (الثياب التي لم تعد قصيرة/ الرصيف الذي لا يوازي النهر/ المساء وقد أضاع الطريق الى المسناة/ كلها الآن تعزف موسيقى الجنازة).
الخزعلي لا يستجيب الى التحذير المغلّف بالموت والبعاد والنهاية، ولا يخشى من الخطر الملتف على مفاصل الوجود، ولا يستعذب طعم الشراب الحلو، وأعذب الكؤوس ما كان مرَّ المذاق، والطعم الرديء سلسبيل العاشق المعنّى. (لم يكن خائفا/ ولكن لم يعد هادئا/ بعد ان عرف الموت قبل الولادة فينا يقيم).
عنفوان الشاعر قوي الشكيمة والارادة، إلّا أن هذا المشاكس العنيد يعاني من نقاط ضعف تجاه المرأة والكأس ودموع الفقراء وذكريات الطفولة ورحيل الاصدقاء وذبول وردة العمر واختفاء الفراشات وغياب الحقيقة واضطرابات أخرى تداهم الانسان من دون أن يشعر بها، ومواجع مرئية ولا مرئية.
وفي غمرة التشابكات لا يفتش المحارب عن حليف يسانده، ويمعن الطعن بعدو ساكن في قمقم ذواتنا المنكسرة. (لقد طاوعتك الاغاني الجديدة/ كيف، وأنت تطيع الغناء القديم). حياة نعيش فيها كمجانين ومرضى وغرباء، والبقاء مرتبط بالكتابة والتحرك الفاعل وتحقيق المكتسبات النافعة، أما الخسارات فهي جزء من ضريبة معركة لا مجال للندم فيها. فالكف المشلولة عاجزة عن أن تبدع أو تقاوم او تدافع او تنتج فنا خالدا، واحتراق الذات يمكن تفاديه بالقصيدة.
(وقد تعلم كل الاسماء/ ما كان لآدم ان يكتفي بخطيئة واحدة). نتمنى الكثير من الصبايا في زمن الشباب، وبعد التجارب ربما نتعلق بامرأة واحدة. هذه الانثى تفرّعت منها السعادة والاشياء الجميلة. وهذا الجمال قد يكمن في وردة أو غصن شجرة وربما رغيف خبز أو وجه حسناء.. هو ذات الحسن المشرق في بريق النجوم وجناح الحمامة وعطر الخميلة وسحر القباب.
الكمال واحد في كل الاجساد النضرة. المراهق يميل نحو مفاتن الجسد، والناضج يهتم كثيرا ببهاء الروح، ولو عثر الشاعر على نفس رائعة لأحبها حدَّ الموت، حتى لو كانت في جسد قبيح، ولكتب عنها الأشعار السامية. (النساء يخفين غير فص الملح/ يخفين ما يخشى الرجال عليه/ وأنا ذاهل ألهو بدهشة غير ما يخفين/ كيف صار ماء البئر ملحا بأيدي النساء).
الزهد في قصيدته زهد معياري واضح، لا يبتغي من خلاله الوصول الى جنان الله الواسعة، والمعاناة علمته أن يكون قربانا لفكرة ناضجة، وقد يضحي بسعادته لإرضاء المعشوق، والعقيدة سواء كانت دينية أو سياسية، تفرض علينا التخلي عن الممتلكات والاحباب والرغبات والاحلام وكل شيء ثمين، وأن نقاوم بشكل خيالي العذاب، ونصبر على تحمل الآلآم، كما السيد المسيح الذي رأى في الموت غبطة واصلاحا للبشر.
(عقود أربعة ومن ساحة السجن لليوم/ لم يبل ولم يتسخ/ وفي كل شتاء/ أرى السجن في الخزانة/ يسألني أن أرتديه).
تعوّد ريسان منذ الطفولة على الأنهار والبساتين والطبيعة الحالمة.. ومن عاش الأجواء الساحرة، وراقب النهر بجزره ومده ولحظة فورانه معلناً انطلاق القوارب، وجاور تكاثر الطيور والاسماك، واستمع لبطبطة البط، سيكتشف طرقا مغايرة في الغزل، ويشاهد في كل قطرة ماء عاشقة، وخفايا خارقة في كل موجة هادرة، وسيفلح بالهناء الأبدي، وملامح لا تتكرر أو تشيخ وتموت. (ما كان يجيد لعبة الجنون/ النهر مرآة القرويات الشبقات/ النهر والمرآة لا يكنزان مباهج الفتنة يا نرسيس).