عندما تكتب المرأة عن عالم الرجال

ثقافة 2020/12/12
...

  هدية حسين
 
تدور أحداث رواية “أرجوحة النفس” للكاتبة الألمانية هيرتا موللر حول المعتقلين من أصل روماني الذين سيقوا الى روسيا في العام 1945 ليعيدوا ما دمرته الحرب، وهيرتا موللر الحائزة جائزة نوبل وجوائز عديدة هي من مواليد 1953، ولدت في رومانيا وهاجرت الى ألمانيا لتصبح أستاذة زائرة في جامعة توبنجن، تكتب الرواية والقصة والشعر، وهي الآن عضو في الأكاديمية الألمانية للغة والشعر.
 لم تُكتب هذه الرواية بحس نسوي، الموضوع الذي تناولته هيرتا اقتضى ذلك، بطلها ليوبولد أوبيرغ كان بعمر سبعة عشر عاماً عندما اعتقله الروس مع آلاف الرجال والنساء، وظل في معسكرات الاعتقال خمس سنوات، سيحكي لنا روايته هذه  وهو بعمر الستين عاماً لأن ما حدث له ولأبناء بلده لم يغادر ذاكرته المثقلة بالمعاناة، إذ ظلت تلك المعاناة تسير معه أينما ذهب، وينسحق بالذكريات السيئة كلما فتح دفترها في رأسه، بدءاً من حشرهم في عربات نقل الحيوانات محاطين بالعسكر إلى القطارات، ومن خلال مايحكيه سنتعرف على بقية الشخصيات كما لو أنه كان قد سجل يومياته وعاد ليقرأها علينا، أشياء كثيرة تأخذ بخناقه من تلك الذكريات (عندما تزورني هذه الأشياء أفتح النافذة بسرعة وأمد رأسي الى الفضاء الخارجي، في السماء قمر جامد مثل كأس حليب بارد، حليب يغسل عيني فيعود تنفسي الى وقعه الطبيعي، وأظل أبتلع الهواء البارد حتى أصبِح خارج المعسكر) ص34.
حين وصلوا بعد أيام وليالٍ كثيرة وضعوهم في معسكرات، فصلوا الأزواج عن زوجاتهم، ووزعوا عليهم الأعمال الشاقة من خلال الأوامر الصادرة من فم الروس والتي لا يعرف المعتقلون لغتهم، وستكون لتور بريكوليتش الحصة الأكبر منها، وتور هذا ليس روسياً وإنما كان أحد المعتقلين لكنه تعاون مع الروس وانتمى لهم فأصبح واحداً منهم، يصف ليو هذا القائد بأنه (إذا ابتسم فإن في ابتسامته فخاً، وإذا ما ابتسمت لابتسامته وأنت عليك ذلك فقد عرضت نفسك للسخرية، فهو يبتسم لأنه كتب شيئاً جديداً خلف اسم ما في جداول التفقّد، شيئاً أسوأ مما هو عليه الوضع السيء). 
كتبت الرواية بفصول قصيرة، حتى أن البعض منها لا يتعدى الأسطر القليلة، وكل سطر محسوب بدقة وبراعة موللر التي جمعت معلوماتها ممن تبقى على قيد الحياة، الرجال يحظون بكثير من أدوار الرواية، وللنساء الأدوار الثانوية لكنها المهمة في لحمة الرواية والمكملة لها، كل امرأة تحكي حكايتها في الوقت المناسب، أما ما يحكيه ليو بطل الرواية فهو ما أخبرها به مواطنها الشاعر أوسكار باستيور الذي كان معتقلاً في تلك المعسكرات الرهيبة التي لا تقدّر إنسانية الإنسان بل تحوله الى كائن هجين مغموس بكل أنواع القهر والمعاناة، ولذلك فهذه الرواية تعد وثيقة مهمة من وثائق بشاعات ما خلفته الحرب.
تنبش موللر في التاريخ الشخصي لشخصياتها، تغور بعيداً وتفتح صناديق أسرارها وذكرياتها في الوطن، تعود بالبعض الى طفولتهم فتجعله يحكي عن تلك الطفولة لكي يهرب من الواقع المر الذي يعيشه في المعسكر، تستدرجه الى المناطق التي غفل عنها فيحكي بلسانه أو بلسان بطلها ليو ليوبولد، ثم تعود به الى المعسكر لأن هناك من يراقبه، وفي جميع الحكايات سنقف على تاريخ تلك الحقبة رغم انقضائها منذ عشرات السنين، لأنها علامات موشومة في نفس كل من ذاق مرارتها، وهيرتا موللر ستجعلك تشعر بألوان المعاناة التي مرت على المعتقلين كما لو أنك كنت شاهداً على ما جرى وذلك لأنها كاتبة محترفة ومتمكنة من أدواتها.
يمكن أحياناً أن تحدث جريمة قتل في المعتقل بسبب الحصول على الخبز، أو تراوده فكرة أن يقتل من أجل كسرة خبز، فقد كان الجوع سيداً لا يعلو عليه شيء إلا أوامر العسكر (لقد افترس ملاك الجوع نخاعي كل تلك الأيام، وفي أحد تلك الأيام رفع لي يدي، وبتلك اليد كنت أوشك أن أقتل كارلي هالمن، إنها جريمة بالخبز) ص101. وفي سنوات المحنة تلك لم يكن الإنسان كما كان، لقد تحول الى شخص آخر لا يعرفه، فهو مع غيره ليس هو الذي مع نفسه عندما يسرق الخبز.
في أغلب الفصول يطل الجوع برأسه، ولا يفكر أحد بالهرب فهو لا يعرف مسالك الطريق حتى لو عرفوا اللغة الروسية، لقد حصل الهرب ثلاث مرات في السابق إلّا أن الروس 
قبضوا على الهاربين ولم يرهم أحدٌ بعد ذلك، ومن المرجح أنهم ذهبوا الى القبر بعد تشويههم أمام الجميع. أما السرقات من أجل الطعام فهي كثيرة ومنها ما فعله أحد المعتقلين وكان محامياً في بلده، فقد كان يسرق حساء زوجته المريضة التي لم تعد تستطيع تحمل مشقة العمل مع الجوع فماتت.
حين تكون خارج الوطن يأكلك الحنين إليه، وعندما تعود إليه ينتفي الحنين وتعود ذكرياتك السيئة عن المعسكر، وهذا ما حدث مع ليو وكانت الذكريات قد أغلقت عليه الأبواب وافترسته (بعد ستين سنة من هذا كله مازالوا يرحلونني الى معسكرات العمل الإجباري) ص208. حتى الأحلام لا تشبه غيرها من الأحلام، تمر عليه الأحداث في الحلم متتابعة كما لو أنها تحدث للتو، وتمر معها أيضاً وجوه الذين شاركوه في المحنة ومن غيّبهم الموت والاختفاء القسري، لا يمكنه الاعتراض على الحلم.. ولا يمكننا الإلمام بجميع التفاصيل، فهي كثيرة متداخلة ومؤلمة استطاعت ميللر أن تبني عالمها الروائي من تلك المأساة الكبيرة فاستحقت مكانتها بين كتاب العالم.
 حين تبدأ بقراءة أرجوحة النفس، يجب أن تتزوَّد بالشجاعة والصبر وأنت تسير على حقول من ألغام من خلال اللغة التي تشبه مفرداتها السكاكين والعبوات الناسفة وكل أدوات القتل التي تحيل الإنسان الى رماد 
فيختفي عن الوجود أو يتشوّه فلم يعد إنساناً.  هدية حسين