أساتذة وتلاميذ
ثقافة
2020/12/12
+A
-A
عبدالزهرة زكي
في الثقافة العربية القديمة هنالك دائماً شيوخ وتلاميذ، والشيوخ بالمعجم المعاصر هم الأساتذة.
وفي كتب التراث بات من النادر أن تجد كاتباً أو عالماً أو فقيهاً من دون أن تجد في بطاقة التعريف به قائمة تطول أو تقصر بالشيوخ الذين تتلمذ على أيديهم ذلك الكاتب أو العالم أو الفقيه وأخرى بمن تتلمذوا على يديه.
لكن في الشعر لا تجد شاعراً مجيداً تتلمذ على يدَي شاعر شيخ مجيد. قد تجد في بطاقة شاعرٍ ما إشاراتٍ لشيوخٍ أو معلمين له في اللغة وسواها أثناء طفولته وصباه لكن ليس في الشعر، وليس في مراحل متأخرة من عمره. الشاعر يُفتَن بالشعر، ويسعى ما بين رواته من العلماء والأعراب وحتى بين بعض الشعراء للتعرف عليه وحفظه، وكان حفظ الشعر بعضاً مما يقوّم مَلكة الشاعر من حيث ضبط الأوزان واتقان اللغة ووسائل بلاغتها وبما ينمي خبراته الشعرية. كان هذا الاهتمام هو ما يحبّب إلى شاعرٍ شاعراً آخر، في الغالب من السابقين، ويستبعد آخر، والافتتان والحب شأن آخر لا صلة له بالتلمذة والتعلّم والتدريب، وقد كان الفرزدق يقول: “لا يكون الشاعر متقدّما حتى يكون باختيار الشعر أحذق منه بعمله».
لكن التقرّب من علماء اللغة وحَفَظتِها من الأعراب هو الآخر ليس تقليداً عاماً وثابتاً سواء ما بين الشعراء أو بالنسبة لشاعر معين تتغير علاقاته بأولئك وصلاته بهم بتغير الأحوال والظروف. يجري الاستشهاد على ذلك بمشكلات شاعر كبير كالمتنبي مع المهتمين باللغة وما عاناه جراءهم وشكواه منهم وهجائه المقذع ضد بعضهم، كما يمكن الاستدلال بشاعر مغمور مثل محمد بن مناذر الذي عُرف بتعريضه بالعلماء والفقهاء، حتى أنه سأل يونس بن حبيب النحوي مرةً: «أينصرف الجبل؟»، فردَّ يونس عليه: «لقد عرفتُ ما أردتَ يا ابن الزانية»، فانصرف يونس عنه، ويونس هو أستاذ سيبويه والكسائي والفراء. كان ابن مناذر ضليعاً باللغة وخطيباً مقتدراً لكن غلبت عليه طبيعته المناكدة وتعريضه بالعلماء، وهذه من طبائع بعض من الشعراء النافرين من الإقرار بأستاذية المعلم. وبخلاف الشعراء ففي أحيانٍ كثيرة تتضاعف قيمة بعض العلماء والفقهاء بأثرٍ من قيمة شيوخهم الذين تتلمذوا على أيديهم. وما كان لعالم أو فقيه أن يكون مُهماً في مجاله ما لم يكن دقيقاً في اختيار شيوخه أو تساعده الظروف ليحظى بمكان له في مجلس عالم يُعتدّ به، وليس لكل هذا من نتائج ما لم يجتهد ويكدّ من أجل الإفادة من معارف شيوخه وما يتحصله منهم. فمن علماء العربية الكبار أبو علي محمد بن الـمُستَنـير النحوي البصري المعروف بقطرب، وقد سمي بقطرب «لأنه كان يبكّر إلى سيبويه للأخذ عنه، فإذا خرج سيبويه سَحَراً رآه على بابه، فقال له سيبويه يوماً: ما أنت إلا قطرب ليل. والقطرب دويبة تدبّ ولا تفتر، فلُقِّب بذلك»، حسب ياقوت الحموي صاحب (معجم الأدباء). لقد بقيت تسميته بقطرب قرينة به، وكانت التسمية كناية عن تشبّث العالم بالمعلم من جانب ومُزحة تقديرٍ من جانب ثانٍ عبّر بها المعلم عن إعجاب بدأبِ التلميذ.
لا ترفّع على المعلم مهما تقدم التلميذ في مضمار العلم، التاريخ يقدّم شواهد كثيرة على تفوّق متعلمين على معلميهم. وهذه من طبيعة ودواعي تقدم العلوم مع تفاقم الخبرات بتطور العقول ونضجها. ويحصل هذا في مرحلة يكون فيها التعليم ليس فقط وسيلة لتحفيظ المعلومات وإنما ليكون أيضاً ميداناً لتطوير وتنشيط التفكير.
لا يترفّع العالم على موضع المتعلّم في أحيان كثيرة، الحاجة إلى العلم قائمة حتى مع تقدم السن بالمتعلّم ونضج ملكاته المعرفية، فمما يروى عن عالم كبير كابن جني هو ملازمته المتأخرة ومصاحبته لعالم فذٍّ كأبي علي الفارسي، وهي مصاحبة امتدت لأربعين عاماً ولم ينهها سوى موت أبي علي. لقد صحب ابن جني شيخه الفارسي خلال الأربعين عاماً حيثما انتقل وحيثما حل، وكان أثناء ذلك ينتفع من علم أبي علي الكثيرَ. وسوى أبي علي الفارسي فإن قائمة شيوخ ومعلمي ابن جني تضم كثيرين بعضهم يبدو مجهول القيمة والقدر حالياً، لكن من لطائف ما يُذكر في سيرة هذا العالم أن من بين معلميه وشيوخه كان المتنبي، والصلة ما بين الرجلين معروفة، وهذا مثال نادر أن يقرَّ عالمٌ بمدى معرفة وعلم شاعرٍ، لكن عمق معرفة المتنبي باللغة ظل في إطار شخصي وبحدود عمله في الشعر، وإقرار ابن جني بأستاذية المتنبي لم يمنع المتنبي عن أن يقول في ابن جني: «هذا رجل لا يعرف قدرَه كثيرٌ من الناس»، فقد كان أبو الطيب إذا سُئل عن شيء من دقائق النحو والتصريف في شعره، فإنه يقول: «سلوا صاحبنا أبا الفتح» وذلك ليس ترفعاً من شاعر هو الأشد نرجسيةً حسب وإنما أيضاً ثقةً بمعرفة وقدرة أبي الفتح على استكناه ما يُغلَق على الآخرين.
المعلمُ لا يحطّ من قدر تلميذه، ولا يأبه إذا ما تقدم عليه، إن لم يفخر بذلك. وكان من المسلّمات أن يطري التلميذُ مهما تقدم بالعلم ويثني على معلمه، نستدل هنا بقيمة شهادة أبي زكريا الفرّاء، وهو عالم لغوي كبير، بحقّ أستاذه الكسائي، هذه الشهادة مثال رفيع في الصراحة والتواضع وفي تقدير قيمة الشيخ، فقد قال الفراء مرة، وقد صار عالماً كبيراً باللغة: «سُئلتُ ما اختلافك إلى الكسائي وأنت مثله في النَّحو؟ فأعجبتني نفسي، فأتَيته فناظرته مناظرة الأَكفاء، فكأنّي كنت طائرا يغرف بمنقاره من البحر». وقد لُقِّب الفراء بهذا تعبيراً عن كونه يفري الكلام أي يصلحه. كان ذلك عصراً ثقافياً مدهشاً، عاشته بغداد والكوفة والبصرة، وكانت من نتائجه هذه المرحلة المتقدمة والمتطورة من الصلة ما بين المعلم والتلميذ، إنها نمط من علاقة نوعية لا تقوم على أساس الأخذ بقصد التقليد والاتّباع، لا يكون فيها المتعلم تابعاً أو مجرد ناقل أو حافظ، وإنما كانت تروم التطوير في العلوم والمعارف، ولا يحصل هذا من دون جدل وتفاعل، حيث في أحوال معينة كان الاثنان يتبادلان الدورَين ليكون المعلم تلميذاً والتلميذ معلماً، هذا هو منطق الجدل والحوار الحق، وكان هذا مما يخلق بيئة تعليمية وبحثية أطرافها أساتذة كبار في العلم والخبرة وتلاميذ هم أيضا علماء أكفاء لكنهم يقدرون حدود المسافة والاحترام، وكانت تلك بيئة وتقاليد هي أقرب إلى ما نسميه الآن بمراكز الأبحاث والدراسات. بموجب هذا يمكن فهم حاصل علاقة التلميذ سيبويه بشيخه الفراهيدي، فالامتياز الأهم للفراهيدي، وهو واسع المعرفة ومتعدد في مجالات اهتمامه، كان في وضعِه لعلم العروض بينما امتياز سيبويه (المتوفى في ريعان شبابه) كان في كتابه النادر في النحو. يقول الجاحظ عن كتاب سيبويه: «لم يكتب الناس في النحو كتاباً مثله، وجميع كتب الناس عليه عيال». وكان الفراهيدي، حسب رواية ابن النطاح، كلما أقبل على مجلس الخليل الفراهيدي فإن الخليل يبادره بالقول:” مرحباً بزائر لا يُمل” ويستشهد ابن النطاح بما قاله أبو عمر المخزومي، وكان كثير المجالسة للخليل: «ما سمعت الخليل يقولها لأحد إلا لسيبويه».
كان عصراً استثنائياً، وكان مثقفوه أشدّ استثناءً.