كنتُ يوماً مدعوّاً إلى ندوةٍ في الجزائر عن الحركة الصوفيَّة، حين افتتح أعمالها عريفٌ ممتلئ الثقافة، راح يغترف من ثقافته نثراً ونظماً، ويقدّمها قطوفاً جاذبة إلى الحاضرين. وكان من بين تقديمه لي، قوله للحاضرين: إنَّ من لم يرَ العراق لم يرَ الدنيا، ومن لم يرَ أهل العراق، لم يرَ الناس!
أعادني هذا المضمون إلى موسوعة «تاريخ بغداد أو مدينة السلام» واعترف أن هذه العودة جاءت متأخرة، لكن عزائي أنها حصلت. ثمّة جوانب عديدة مدهشة في هذه الموسوعة الواسعة الممتدّة على (24) مجلداً مع الفهارس، في طليعتها ولا ريب مثابرة مؤلفها أحمد بن علي الخطيب البغدادي (392ـ 463ه) وعلو همته. فمن بين العديد من تصنيفاته التي تصلُ إلى الثمانين مؤلفاً، تتربع موسوعة «تاريخ بغداد» في صدارة هذه المؤلفات، من حيث حجمها الكبير، وأهميتها أيضاً، وما تنطوي عليه من تميّز بين بقية كتبه. من بين خصائصه الأُخر كثرة أسفاره في طلب العلم، إذ تُشير تراجم حياته إلى أنه مرّ على بعض حواضر العلم حول بغداد، مثل جرجرايا وعكبرا وبعقوبا والنهروان، ثمّ الكوفة والبصرة، قبل أن تأخذه خطاه إلى رحلات علمية إلى المشرق، ماراً بأسد آباد وهمدان وساوه والري وأصفهان، ثمّ نيشابور، وبعدها إلى الشام فالحجاز، حيث تكرّرت هذه الرحلات وأسهمت بإثراء موسوعته، التي عكف على تدوينها في سنوات طويلة امتدّت بين 423ـ 440 هـ.
حين عدتُ إلى الموسوعة أدهشني هذا الإصرار على الاستقصاء والبحث والتنقيب، إذ حاول البغدادي أن يُترجم للعلماء الذين عاشوا ببغداد أو زاروها منذ إنشائها حتى عصره، فكانت الحصيلة (7831) ترجمة ضمتها الموسوعة للمحدّثين وبقية العلماء ورجالات المجتمع والدولة، بمنهج يقوم على تتبع حياة هؤلاء ونشاطاتهم العلمية ومناهجهم وتلامذتهم ومصنفاتهم والمدارس العلمية التي بزغت في بغداد يومذاك. بعد نُبذٍ تأسيسية عن العراق، وأرض السواد، يتحدّث بالتفصيل عن تأسيس مدينة بغداد، وأحيائها وجسورها ومساجدها وقصورها ومدارسها ومقابرها، يزدلف إلى تقديم الترجمات متسلسلة زمنياً، حيث خصّص الترجمة الأولى للإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، ثمّ لولديه الحسن والحسين، ثمّ للبقية.
في ثنايا هذه المقدّمات ذكر أن الأرض تتوزعها سبعة أقاليم، وأن العراق الذي يقع في الإقليم الرابع، هو صفوة الأرض، وسُرَّة الدنيا. في مقدّمات هذه الموسوعة قرأتُ هذه الواقعة: سمعتُ أبا الوليد يقول: قال لي شعبة: أدخلت بغداد؟ قلتُ: لا، قال: فكأنك لم ترَ الدنيا. كما ينقل عن ابن إدريس الشافعي، مخاطباً يونس بن عبد الأعلى: يا يونس، دخلت بغداد؟ قلتُ: لا، قال: يا يونس ما رأيت الدنيا، ولا رأيت الناس. بديهي، يسوق البغدادي مجموعة من الأخبار في فضيلة بغداد وذمها، ويضعها في دائرة البحث والنقاش، لكن الهاجس الذي لا يبرحني: نحن لا نصبر على قراءة هذه الموسوعة، فكيف صبر البغدادي على تأليفها؟!