أيضاً.. ماذا عن التلوث السمعي؟!

منصة 2020/12/13
...

  ميادة سفر
​لم يجد البعض مشجباً يعلقون عليه تراجعهم إلا عبارة «الجمهور عايز كدا»، التي أفسحت المجال لـ «صعود نجم!» الأغاني الغريبة الأطوار!!.. أغانٍ، بلا معانٍ ولا حس موسيقي، بلا لحن ولا نغم يحفز على الاستماع، الأمر الذي سبب تراجعاً مخيفاً وتشوهاً في الذائقة الموسيقيَّة والفنيَّة، التي لم تعد تميز لدى الكثيرين بين الجيد والسيئ، وأصبح مقياس الجودة، عدد «اللايكات» التي تنالها أغنية على موقع فيسبوك، أو عدد المشاهدات على يوتيوب، من دون الأخذ بعين الاعتبار جودة الصوت واللحن والكلمات.
​جولة سريعة لا تستغرق منا وقتاً طويلاً على موقع يوتيوب، سوف تمكننا، من دون أدنى شك، من ملاحظة أنَّ «مطرباً.. مطربة» وأؤكد على وضعها بين قوسين، من مطربي الكراجات والأكشاك الذين لم يسمع بهم أهاليهم ربما، يحصدون ملايين المشاهدات والمتابعات وتحظى «أغنياتهم» بأعلى نسب التحميل!.. بينما لو أردت مرغماً إجراء مقارنة غير عادلة، وعرجت على موقع يعنى بنشر أعمال عمالقة الفن والغناء العربي، أمثال أم كلثوم وفيروز وعبد الحليم وعبد الوهاب، ناظم الغزالي، ليلى مراد وغيرهم ممن كان الفن عندهم رسالة وذوقاً، ستلاحظ أنَّ أعداد متابعيهم ومشاهدات صفحاتهم لا تصل إلى ربع أولئك الذين انطلقوا من ساحات الكراجات وأكشاكها، وصدحت أصواتهم من سيارات الشحن، بينما يمكن له أنْ يكون أي شيء إلا أنْ يكون فناً!. 
​في التوصيف، هو تلوث سمعي بامتياز!.. وهو لا يقتصر على ما ينتشر حولنا من الأغاني ومن يسمون أنفسهم مطربين، بل يندرج تحت مسماه كل ما يصدر من أصوات تخدش آذاننا وسمعنا، من أبواق السيارات التي يتفنن أصحابها في تنويعات زعيقها، ضاربين عرض الحائط براحة الآخرين، إلى أولئك الذين يحاولون فرض ذائقتهم على الآخرين!.. ابتداءً من هذا الذي تصدح من سيارته أو محله أصوات تتحدث عن الموت وعذاب القبر والتهديد والوعيد، مروراً بذاك الذي يبث أناشيد وخطباً تبث البغض والكراهية وربما الطائفيَّة، وليس انتهاءً بجارك الذي يريد أنْ يُسمع كل أهل الحي، ويصمّ آذانهم، بما يَسمع!. 
​هو استلابٌ حقيقي للإرادة والذوق واعتداءٌ سافرٌ على خصوصيَّة الأشخاص وحياتهم!.. فأنت حينما ترغمني على سماع ما لا رغبة لي به وما لا يروق لي، فأنت تعتدي على حقي بالسمع لما أرجوه، ولما يريح أعصابي ويعزز سلامتي النفسية!. 
​المفارقة العجيبة: أنّ العصر الحديث بما حمل من تطور تكنولوجي وثورة في الاتصالات، شوه ذائقة الناس الفنيَّة ولوثها، حين تحول من يجمع أكبر عددٍ من المشاهدات على السوشيال ميديا إلى ملك الساحة الغنائية، صار من الطبيعي أنْ يقيّم ويعطي شهادات حسن أصوات للآخرين، وفي المقابل جمهور لا همّ له إلا ألحانٌ يتراقص على أنغامها، وكلمات ترددها الأفواه ما أنزل الله بها من سلطان، أقل ما يمكن أنْ يقال عنها إنها سوقيَّة اللفظ والمعنى. 
​أما الكارثة الحقيقيَّة فتكمن في الدور الذي تلعبه وسائل الإعلام من خلال السماح ببث تلك الأنماط الغنائيَّة المشوهة وتسويقها والترويج لها بما يشبه جائحة أوصلت البعض من الأجيال الجديدة لامتلاك الجرأة والسخرية ممن يستمع لأغاني فيروز أو عبد الحليم مثلاً!.. بكل تأكيد، لا عتب ولا ملامة على تلك الأجيال، ذلك لأنهم تربوا ونشؤوا وترعرعوا على تلك الأصوات «المنكرة»، إذ يشنفون آذانهم لسماعها ليل نهار، في التلفاز والراديو وعلى الموبايل وحيثما يمموا آذانهم!. 
​الفن مسؤولية ودور في ارتقاء الذائقة لدى البشر.. هذا ما نعرفه!.. لكن واقع الحال يشي بما هو مخالف لهذه المعرفة!.. لذلك يبدو السؤال مؤرقاً وموجعاً: بأي نفق نسير، وفي قلب كل هذا الضجيج والصراخ والزعيق؟!.. أما الجواب فلا شك أنه نفق مظلم لا يبدو في نهايته أي ضوء أو شعاع من نور!.