المغايرة في الخطاب المناهض

ثقافة 2020/12/13
...

علي سعدون
 
في قصته (حامل المظلة)* التي حملت اسم مجموعته القصصية بالعنوان ذاته، يذهب لؤي حمزة عباس إلى توثيق لحظة عميقة وهائلة واستثنائية من لحظات الحياة، وهو المشهد الذي يصلح كثيرا لإجراءات القصة القصيرة حيث مصائر الشخصيات اكثر وضوحاً في استيعاب تلك اللحظة الهائلة. تدور احداث قصة «حامل المظلة» عن استذكاراتٍ لرجل عتّال/ خادم، هي ليست وظيفة بالمعنى المحدد لمفهوم الوظيفة.
 انها عمل يقحم المرء نفسه فيه للحصول على قوت يومه، وتتلخص طبيعة عمله بهرولته لاستقبال الزبائن من مرتادي الفندق الذي يبدو فخما من سياق السرد في القصة، يهرول اليهم ليقيهم الامطار الغزيرة في الشتاء والحر الذي يذيب الحديد في الصيف، وهما ميزتان تشيران إلى الفضاءات العراقية الجحيمية في فصل الصيف والقاسية في شتائه. اللحظة التوثيقية التي يعتمدها القاص في هذه القصة، ستصوّر حيوات شخوص القصة: البطل الذي يثابر ويهرول في عمله ولا يسهو طرفة عين مطلقاً. والحيوات الاخرى التي يتوجها القاص في نهاية المطاف بالمسلحين الذين يجرّون ضحيتين وينفذان بهما حكم الاعدام امام بوابة الفندق. لحظة شرود ذهني لمجتمع كامل ممثلاً بحامل المظلة الذي سيسهو هذه المرة، ولا ينتبه لقدوم نزيل جديد يحتاج إلى خدمته إلّا بعد ان تنفخ إحدى السيارات ببوقها الذي يصل أذنيه، فيهرع اليه.. وتدور عجلة الحياة من جديد. 
السهو الذي يريد له لؤي حمزة عباس أن يبقى شاخصاً من خلال الذهول الذي يصيب الحشود وهي ترى الى الموت على مقربة منها، فتنسى وتتذكر على حد سواء. إلا ان ذلك الموت لم يكن عابراً، لقد كان الموت حاملاً لمظلة هائلة تظلل الموتى خلال فترات الحقبة الفاشية، اسوة بالمظلة نفسها التي تؤدي تلك الخدمة. المظلة اذا ستؤدي وظيفتين في هذه الحكاية، وظيفة عملها الدؤوب بوصفها حاجة طبيعية وشائعة. لكنها ستعبّر في الوظيفة الاخرى عن افقٍ للدهشة التي تحتاج إلى سهو عظيم وشاسع من الحشود التي يتآكل وجودها كلما طالت فترة الاستلاب والقمع والموت المجاني. انها مظلة تنشطر عند القارئ إلى منطقتين متنافرتين من المعنى. 
هذه القصة، هي لحظة تأمل طويلة في مشهديات الاعدام التي تشكّل فصلاً تاريخياً موجعاً من تاريخ العراق. قصة حامل المظلة على وجه التحديد، تمثل الفهم العميق للحياة في لحظتها التي تنبثق من العادي ومن المهمل ومن ثم النسيان. أن تلتقط مشهداً استثنائياً أو عادياً وترتقي به من خلال الاداء الفني في القصة القصيرة الى مستويات هائلة وعظيمة من التعبير.. بودي ايضا ان ألفت الانتباه إلى واحدة من مضمرات مستوى الخطاب في هذه القصة، إذ ان التاريخ المركزي المكتوب في داخل مساحات القمع التاريخي في هذه القصة سيتحول على أيدي الحشود الى تاريخ مختلف بالأدلة والبراهين، براهين الوحشة القاتلة التي تتسع فتؤرخ وتتذكر وتزيل الكثير مما علق في صدأ الذاكرة.
يعمل لؤي حمزة عباس على نقل هذه الحكاية من اليوميات إلى فعل تاريخي بالغ التحول، يتجسد في نقل لحظة الصراع المعروفة بين السلطة ومناهضيها “الاسلاميين والشيوعيين وغيرهم” من منطقة الصراع والتقاتل الذي ينطلق من الايديولوجيا، إلى المساحات العامة للمغلوبين، وان هؤلاء المغلوبين هم الضحايا الحقيقيون لإجراءات البطش الذي فتك بهم على مدى عقود طوال. هذه اللحظة، لحظة الفهم العميق لما تلتقطه عين القاص وذهنيته وخياله، تعمل على تفتيت مركزيات التاريخ السياسي في العراق، وهي واحدة من مضمرات هذه القصة – النسق - الاجتماعي الموجع الذي يحيط بنوع من الحياة المستلبة التي تعبر الايديولوجيا الى لحظة انسانية فارقة، بعيدة عن اصطناع العداوة التقليدية بين ايديولوجيتين متنافرتين او متعارضتين..أعني أن الصراع الذي يأخذ شكلاً سياسياً وايديولوجياً بين السلطة ومناهضيها، يضعف ازاء انشغال تلك السلطة بالمغلوبين بصورة أوسع من انشغالها بمناهضيها ومنافسيها الايديولوجيين. وهذه المركزية التي تقفل الصراع بين الطرفين، يفككها لؤي حمزة عباس ويفتت مقصدياتها من خلال شخصية “حامل المظلة” الذي لاعلاقة له بالايديولوجيا، وهو بروليتاري فاعل ونشيط من دون أن يدري، ومعارض صامت ورافض لإجراءات التنكيل والقمع التي تجعل الامة برمتها تعيش الدهشة والضياع إلى اقصى مدى يمكن للمخيلة ان تتصوره. ربما يؤمن لؤي حمزة عباس بفكرة ملء الفراغات في التاريخ المركزي بوصفه سردية (التاريخ نتاج فردي وتصور ذاتي تشكله المخيلة الفردية، ولذلك فَقَد التاريخ هيبته وحلّ الإنسان محله).. 
حامل المظلة هو التاريخ الشخصي للملغوبين، أعني قدرته على سد الفراغات وردم هوّتها من خلال تخييل الاحداث وعقلنتها واضافتها لتلك المركزيات، ومن ثم انزياحها عن الخط الافقي الذي سارت عليه طويلاً، وصارت قارة وغير قابلة للدحض. وعليه فإنّ التصارع في صورته الحقيقية كان يتعالى ويتصاعد في بنية المغلوبين حيال السلطة، لا بين الايديولوجيين وبينها. 
قصة “حامل المظلة” واحدة من مبررات دحض فكرة التاريخ القار، ويأتي نسقها المستفِز من خلال التقاط هموم المغلوبين واستذكاراتهم الموجعة وبثها على الورق، بعد أن انزلها في الحياة بعلاقة تبادلية بين التوثيق والاستذكار والتداعي الذي يريد لنفسه ان يبقى قابعاً في مخيلة وروح حامل المظلة. ومن ثم فإنّ مقصديات بناء الشخصية عند لؤي حمزة عباس ستأخذ اهميتها من قدرته على جعل الشخصية حاملة للمعنى العميق الذي يليق بلحظة القص الهائلة والنادرة.
* لؤي حمزة عباس/ حامل المظلة/ قصص / دار ميزوبوتاميا – بغداد – ودار الكتب خان – القاهرة - / ط1 2015.