سبيكةٌ غامضةٌ في مشهدٍ زائل

ثقافة 2020/12/13
...

زعيم نصار
 
أريدها سبيكةً فضيّةً غامضةً: يقول كتابي.
وقد اعتنيتُ بها مراراً، ألوذُ إليها بالفِرار منّي، صغتُها إيقاعاً لنفسي، كرّرتني أمواجُها، أنسجُها قصةً للرغبة في البقاء، أجلو السرّ كي أتنفس. 
ألملمُ أيّامي معها، أتدلى بها، وأتأرجحُ برقّاصها عابثاً، أرتجف صاعداً، وأهبطُ مرتجفاً، أرتطم بطيّاتها لأنقذ لحظتي من الزوال.
الفقدانُ يحفرُ مقبرةً في صميم نفسي،
عبثٌ يجري بين كلماتي في نهر الجمرات، يصوغ وميضاً لإيقاعِ شخصي، يؤرجحني يميناً ويساراً، أصعدُ سلّم الخيال حارساً لعراء العدم، عارياً لا غابة لي، ولا شجر، سوى سكوتي تدخنهُ الكلمات، سوى لساني ألعبُ معه لتندملَ الجراحُ، وهذا ليس كافياً لتكتمل لعبةُ القدر.
 
كأنني أصفُ غريقاً، أستنجدُ بيديه،
 أن تمسكا لي الهواء من أذنيه، كلّما تبدأ رئتي بالشهيق، يتلفظُ قلبي نبضَ العدم، حروفي خيوطُ التنفس تتمايلُ فوق البياض، هالةٌ تحيطُ أصابعَ الرسالة بهديل البلل، في منتصف الليلِ في مشهد زائل، أنزلني في بئره، مسّني شعاعُه، فانسكبَ في قدحي الكتابُ. 
يقول كتابي: أريد سبيكةً فضيّةً غامضة.
لم أكن على كرسيّ، ولم يرف وجهي على المياه، لا نور عندي من مصباح الزجاجة، ولا أغصان من زيتونة وحيدةٍ، لأستدرج حمامةَ السفينة لقفصي، كنتُ في المدينة ذاهباً لشارع بعيدٍ، من أجل أن أتخيّل لي مصيراً، فسالتِ الشمس، فوق الأشجار على الرصيف، سقطتْ على الأرض لؤلؤةٌ ساخنةٌ فتوّهجَ تحت عينيّ اللهب، ارتعشت يدُ المساء، رفرفتِ المناديلُ هادئةً، هذا ما تخيّلته في الطريق، 
قال كتابي: هذه سبيكةٌ غامضةٌ في مشهدٍ زائل،
أهذه حياتي
عبثٌ 
أم وميض
يتموّجُ بين عينيّ؟ يأخذني الى نظرةٍ قديمةٍ، لأرى وردةً قطفتْ نفسها، اختفتْ من بلل الزمن، لأرى شجرةً ثمرتها كوجه أفعى، 
هربتُ بفأسي
ألملمُ نفسي،
التي تركتها على الحافة،
غرق قلبي في الفقدان،
فهربتُ منّي 
لفّني الليلُ
وأخذتني الأرصفة.
من يتفّقد زوالي، من يعيد تركيب هذا المشهد المبعثر؟
يعيده بشكلٍ حرٍّ، ومختلف وجديد، مجرد كلام، وتحريض صامت، يائس، يسعى لاهثاً وراء الأبد، فلم ينجح في اقتناصه.
 
في كلّ مساء أتخذُ جادة خطرة، أسيرُ معها منذهلاً، بإصغاء مرهفٍ، أنحتُ مهارةَ الروح، أمسكُ لهبَها الزائل، أتفوّهُ بكلام يلمعُ كدموع البرق في العيون، أستعيدُ الخيال الذي جفّتْ منابعه، وأبصرُ ما خلف الستار،
كنتُ أسرُّكَ مفتاحَ الحكايةَ أيها الكتاب، فتورِقُ في مساء المقهى الأخبار، ينتشرُ سرّه في الدرابين، في كلّ صفحة منكَ، يذاع اسمه عالياً، لم أجد حمامةً تطيرُ بصوتي  الذي يمطرُ ألماً تحت كلمات السبيكة.
أمضي معكَ، لم أعرف إلى أين، لا الجحيم لي ولا الفردوس، مع رصيفي، وقتلاي
كنتُ أحلم بمكانٍ، يلهمني كي أصير ما أريد،
أصيرُ الخاطئ، واللاعب، الغامض والزائل، أبصرُ الرؤيا، فأمضي لسبيكةٍ فضيّةٍ غامضة الجمال،
لم أختفِ بعدها،
لا أريد معجزةً،
أريد أن أنام 
بلا خوفٍ تحت المجرّة.
أيها الراغبُ في اقتناص الشيء قبل اختفائه،
أيها القابضُ على الجمرة، 
لنرتطم بريشة الطائر التي معدنها من الغبار،
لماذا لا أسحب العالم إلى الأعماق، 
وأتركُ القشور في الجرّة؟
لأسحبه، لأجرّه، 
ولكن إلى أين؟ 
لا بيت لي
يا صاحبي، سوى الكتاب 
يا صاحب الكهف،  
كتابي يريد سبيكةً فضيّةً غامضة،
كهفي الحياة، رعبُ الكتابة، كتابة الرعب، 
لا الكلام، لا الكلمات التي تمطرُ ألماً فوق رفيف الحروف.
أريد سبيكتي فضيّةً غامضة.
ومضةُ الجمال تتآمرُ على بهجة العمق العابر للزمن، نسحبهُ إلى الأعماق في السَّحابة، إلى فضلةِ البرق، نزيلُ الينبوع، لنكتشف المصير، سِرتُ سحابة يومي، وطائفة من الظلام ممتدة على طول البلاد، قلّبتُ الطرقات ظهراً لبطن، تذهبُ واحدةٌ وتجيء أخرى، رأيتُ من في عتمة البئر غرق،
والسعف الذي تطايرَ في العاصفة، 
رأيتُ الذين مسّهم الجنون على الورق،
رأيتُ صوراً في الطريق للذي لا يبالي بما يفعل، وما فعل،
رأيتُ كلاباً مطوّقة بقلائد من جمان، 
رأيتُ ذكر الغول وهو أقرب القرود للإنسان، تذكّرتُ محنتي منذ الأزل، أعيش بموسيقى الفكرة، أعزلُ القوة، وأزجُّ الغربةَ بالطبيعة، أبحث عن الغامض في الزائل، وراء النوافذ، في الحافلة العابرة، في أدوات المطبخ، هناك حياة منسيّة زاخرة، كيف أخلّصها من التفوّهات المطلقة؟ 
أرجعُ للبسيط حتى أكتشف المطلق فيه، أنسى لأكتشف، لأصدم وأفاجئ، أتخلّص من سجن الكتب بحريتي الكبرى، أهضمُ سريعاً وأنسى، أعودُ حافي الروح، بلا أثرٍ يدلّ على الماضي، رياحُ الطريقِ تعصفُ بمهارتي، فتذبلُ رياضيات الروح، جمعتُ العزلة مع الحياة، الحقائق مع الخيال، الألعاب مع الطفولة، الحديقة إلى أقدامي، وقلتُ سألعب، ألعب حيث اللسان لا يطوّقه الكلام.
سحبتُ العالم،
سحبتُ العنكبوت،
سحبتُ الأفعى التي تطير، سحبتُ الإناث اللواتي فيهن سواد ضارب إلى الاحمرار، وسائر البيض، الظبية الساربة الواضحة كالسراج، 
والعابرين، الشجرة الوحيدة،
سحبتُ الخفيف والكثيف، 
والذي حملته الرياح وذرّته، 
وما تساقط من ورق الشجر، 
أثر النور في أقداح الليل، 
ومن البغال السريعة الخفيفة، 
وأسماء الغرقى على ضفاف الأنهار، 
سحبتُ العالم كله، ومعه مهارة الروح تطوفُ، سحبتُ كلَّ شيءٍ لكتابِي، 
فَرَرْتُ إليه،
همستُ له 
فاستيقظتِ العاصفةُ 
بين طيّتيه وهبّتْ.
الكتابةُ مستقبلُ الزمن، انفجارٌ مؤجلٌ، وضوح رؤية، وزهدٌ يختزنُ البرق،
الساعاتُ أوهامٌ، تنفيس، شراك تطيح بالروح، تغمسها بالصدأ، الزمن والجمال يتقابلان، الأول يؤدي إلى الزوال، والآخر يفلتُ منه، ليخلق ديمومةً سرّها كامن في روح الروح، هذا مطلق أكبر من اللغة، لكنّه في داخل الإنسان، الأصل هو الحسّ المهذّب الذي يجيد التغذية المتبادلة بين النغم والرياضيات، تذكّرتُ الحروف المختفية تحت عقلها الرياضي، وحسها الخارق، تذكّرتُ هذا اللاعب المستتر الشغوف بالموسيقى في داخله، المايسترو إذا سقطت عصاه تحلّ الكارثة، 
كارثتي تبدأ وتنتهي بعصاه، من أجمل الأشياء أن تكون ساحلاً لا مسحولاً، ساحل الأمل الأخير، البؤرة الطاردة لوحشة الفراغ، النغمُ يتغلغل في حياتي، تعبتُ ونمتُ فوق خيول المساء الذي تتطايرُ دقائقه كالريش في العاصفة، 
وقد كان عنقي 
جذعاً لرأس الشجرة.
برقُ العلامات سال من الماء الغريب الى إيقاع الجمرة في كتابي وهو يجعلُ الكائنات موجودة بزوالها، يسمّي الأشياء، يلتقطُها، يبعثرُها فوق باب رأسي، 
يتحدى الفقدانَ الذي يحفرُ مقبرةً في صميم نفسي، 
أو في نهر الانتظار، 
ففَرَرْتُ إليه لينقذني، ومعي سبيكةٌ فضيّةٌ غامضة.