البناء والتكديس

الصفحة الاخيرة 2020/12/14
...

جواد علي كسار
أعادتني الأرقام التي تُنشر عن السلع المستوردة، إلى ملاحظة للمفكر الجزائري مالك بن نبي، ففي بلدنا لا تقل المستوردات السلعية التي تدخل العراق سنوياً عن (35) مليار دولار، وأضعاف هذا الرقم في بلدان الخليج، وأضعاف أضعافه في العالم العربي والإسلامي، والرقعة الموسومة بالعالم
الثالث.
يؤكد المفكر الحضاري المتميّز ابن نبي، أن هذا النزيف من الثروة الوطنية، سيبقى مستمراً، ما دامت تحكمنا عقلية التكديس دون البناء؛ فماذا يعني بذلك؟
كانت الحداثة المدنية أو التحديث كما يحلو للبعض أن يقول، فتنة كبيرة لمجتمعات المسلمين أوائل القرن الماضي، كما هي لا تزال مع صنوها الحداثة الفكرية، فما أكثر التجارب التي دخلنا بها في محاولة لنبذ التخلف المدني وبلوغ ناصية التقدّم، لكن النتيجة في أغلب بلدان المسلمين هي الفشل، وفي بعضها إعادة إنتاج التخلف وتصفير المعادلة أكثر من مرّة على نحو مريع، كما حصل في بلدنا العراق.
لبث مالك بن نبي عند هذه الظاهرة كثيراً، وتساءل بجدّ عن بواعث بقاء بلدان المسلمين في حالٍ يرثى لها من التخلف المدني والتكنولوجي، رغم الثراء الفاحش لبعض هذه البلدان، وتحوّلها إلى أسواق لاستهلاك منتجات الآخرين، على كثرة تجارب التصنيع الذاتي وتوالي الخطط الخمسية والعشرية 
وما شابه!
في تحليل هذه الظاهرة والجواب عليها، أفرزت منظومة مالك مصطلحي «التكديس» و«البناء»، ليذهب عبر هذا التمييز المبكر إلى أن ما كان يحصل في بلداننا، هو «تكديس» لأشياء الآخرين ومنتجاتهم، نعيد إنتاج بعضها عبر مشاريع التحديث على نحو رديء، لنكرّس التخلف، في حين أن المطلوب للتقدّم هو «البناء» الذي يستبطن الإنشاء والتأسيس والإبداع. 
فربة المنزل مثلاً لو حشدت في قدر الطعام ألذّ اللحوم العربية، ومعها الزعفران الإسباني والهيل الإيراني، والبهارات الهندية وأرقى أصناف الرز؛ فلن تزيد حصيلة هذا التكديس عن أكلة رديئة في أحسن الأحوال، أو كتلة عائمة من الطعام الذي قد لا يصلح للأكل أصلاً، كذلك الحال في بناء المنزل، فتكديس أحسن موادّ البناء لا يُنتج لنا منزلاً جميلاً متّسقاً، من دون رؤية معمارية مناسبة، وتمكّن من نسب الموادّ الإنشائية، واستخدام منظّم
لها.
تنتهي هذه الرؤية لمالك بن نبي إلى أن ما نحتاج إليه، هو نبذ التكديس إلى البناء، كي نكون في مسار التقدّم المدني، تماماً كما حصل مع كلّ تجارب العالم الناجحة من حولنا!