الظلام الدامس يحيط بالمكان ورائحة التبغ الإفرنجي المغشوش تنتشر في الجو وهناك من يمسكُ بي من كل جانب، أحسُّ نفسي مضغوطة بشدّة، لا أحد يستطيع العيش هكذا، كل محاولاتي ومحاولات الآخرين معي بالخروج من هذا المكان المكبوت باءت بالفشل، ليس لنا إلّا ان ننتظر الخلاص، هذا الخلاص الذي لا نعرف متى يأتي وعلى يد مَنْ، مرت فترة طويلة وأنا على هذا الحال، حتى دَبَّ اليأس في اوصالي وعملت على أن أتأقلم وفق هذا الوضع الكئيب، فجأة انبلج الضوء قليلاً وعرفت أنه تم رفع الغطاء عنّا، لأرى الضوء من جديد بعد غياب طويل، يبدو أن الخلاص الذي كنت أبتغيه قد اقترب.. امتدت يد معروقة بعض الشيء كأنها تعود لرجل مريض وسحبت السيجارة الواقفة في آخر الصف الذي اصطفُّ فيه، تناهى لسمعي صوت هذه السيجارة وهي تودعنا بفرح غامر وتقول لصديقاتها اللواتي بجنبها.. –وداعاً أيتها الصديقات.أخيراً تخلصتُ من هذا المكان الخانق!أنا ذاهبة إلى الحرية حيث الفضاء الواسع الرحب!
تبادلنا فيما بيننا التهاني وفرحنا لصديقتنا التي ذهبت للحرية المنشودة، ماهي إلا لحظات حتى سمعنا تأوهاتها وهي تستغيث بين شفتي رجل كهل مُنهك، تتأوه بألم من رائحة فمهِ النتنة، أسنانهُ الصفراء المنخورة تكاد تقضم الطرف الأسفل منها، أما الطرف الاعلى فقد كانت النار تشبُّ فيه وتنبعث منه أدخنة بيضاء ورمادية غطّت ملامح هذا الرجل وأخفت وراءها شحوبة وتجاعيد وجهه لتأخذه بخيالات يسرح بها أو هكذا يخيل لي، لم تتوقف صيحات السيجارة المشتعلة فقد ظلت تزداد كلما يعصرها بين أصبعيه ويضعها في فمهِ كأنه يسحب روحها وينفثها بحرقة في الهواء ليزيد من احتراقها تدريجياً إلى أن وصلت النار إلى حافتها وتوقفت عند (الفلتر) الذي اكتسى داخله باللون الأسود نتيجة ترسبات الدخان والنيكوتين.
كانت النهاية المأساوية للسيجارة وهي تتأوه وتستغيث انذار خوف ورعب لبقية السجائر الموجودة وأنا من ضمنهن، لقد خاب الأمل بالحرية التي فرحنا بها بعد رفع غطاء العلبة، كان من المؤمل أن يُفرج عنّا ونخرج من الحِصار الذي كنّا مخنوقين فيه لكن للأسف وأقولها مرة أخرى.. لقد خاب ظني بالحرية التي حلمت بها وما بقي لي غير أن انتظر موتي البطيء مثل زميلتي التي شاهدت موتها على يد هذا الكهل القاسي القلب.
فجأة حدث ما لم يكن بالحسبان، رأيت الرجل يمسك بالعلبة ويقربها من عينيه ويقرأ بصعوبة بعض الكلمات المكتوبة..(تحذير.. التدخين المسبب الأول لمرض السرطان)سمعتهُ بعدها يضحك بضحكة مدوّية تبعها بهذه الكلمات..-سأجعل السرطان يدبُ في كل مكان.
ثم قام وبكل برود بحرق العلبة بما فيها من سجائر لترتفع أصواتنا بالصراخ والنيران تشب في الكل، ارتفعت سحب كثيفة من الدخان لتزيد من قتامة المشهد المأساوي، يبدو ان الدخان الذي كان محبوساً فينا هو الوحيد الذي حصل على حريته بينما نحن بقينا نحترق شيئاً فشيئاً الى النهاية.