{شباك اوفيليا} وكسر النص

ثقافة 2020/12/14
...

أمجد ياسين
لا ضير أن يعمد المؤلف الى كسر المألوف من الأفكار الراسخة كـ”هاملت” والابحار بقارب رؤية مختلف عما تعودنا عليه، فشكسبير ومسرحياته، هذا البحر المتلاطم والمتفرد بالجمال والميثولوجيا والتاريخ والحكايا، والمتجدد  فينا كنسغ حياة لا ينقطع أو يتوقف، فيه من الثيمات وفضاءات الحداثة والتحديث وسيولة التأويل ما يجعله مطمعا لكل مغامر حقيقي يشق امواجه بنفسه، بسفينته وركابها وملاحيها، هذا ما فعله  المسرحي العراقي جواد الاسدي في نص”شباك اوفيليا” الذي قدمته الفرقة الوطنية للتمثيل على خشبة المسرح الوطني يوم التاسع من كانون الاول الحالي، فالمسرحية من اخراج الفنان مناضل داود وتمثيل كل من الفنانين: زهرة بدن، اياد الطائي، الاء نجم، حسن هادي، جاسم محمد، امير احسان، احمد شوقي ونضير جواد.
نص غني، ثوري، امتزج فيه الواقع العراقي اليوم بعمق مع واقع كتب قبل أكثر من اربعة قرون، وكأن الزمن يعيد نفسه، ويعيد توزيع ذات الادوار على الايام والسنين ويلبسنا حلته رغما عنا، لنعيد بدورنا تمثيل ذات الادوار في زمان ومكان مختلفين، ننطلق من ذات الوجع والهم ونلبي ذات النداء المفزع الذي يتأوّه بالخيانة والغدر والسلطة وسطوة الجلاد. 
وعلى الرغم من جمال وعذوبة واحترافية وقوة نصوص شكسبير، إلا أن البحث فيها وتثويرها أمر غاية في الاهمية، مع المحافظة على ذات المنطلقات التي يبدأ بها النص الاصلي، ولكن ليس بالضرورة أن تنتهي بذات النهاية التقليدية، فـ”هاملت” “شباك اوفيليا” هو أقرب لهاملت اليائس الذي تشي عدم مبالاته بنهايته، ويأسه من التغيير بحقيقته، هو هاملت الذي يصارع  نفسه، ولكنه ليس هاملت ضد هاملت، هو هاملت من دون هاملت، هاملت اليوم، اليائس من احداث تغيير مكتفيا باللوم والشتم وتعريف من حوله بأنه يعرفهم جيدا، بينما اوفيليا حبيبته، أو التي كانت تحبه، فهي اوفيليا جديدة أيضا، بدأت كما نعرفها عند شكسبير واختلفت  في نص الاسدي الذي حضر فيه الموبايل والاسلحة الرشاشة والسيارة التي تحمل الجنازة في محاكاة للواقع الآن. إن هذه الرؤية أو القراءة لاحد نصوص شكسبير ليست جديدة، فأوروبا كسرت الكثير من نهايات شكسبير في الدراما والسينما والمسرح، أكثر من ستين فيلما عالجت قصة هاملت، ومئات الكتب التي قرأت وناقشت وجددت في المسرحية وشخصياتها، وفتحت مساحات جديدة فيها من التأويل ما يضفي على النص الكثير من المتعة والاسئلة التي تفتح بدورها آفاقا جديدة للمتلقي والمشتغلين بالمسرح عموما. 
اختار الإخراج شخصياته بعناية، هي مختلفة عن بعضها البعض، سواء على مستوى الاداء والحركة والصوت والكاركتر، وأعتقد أنها المرة الاولى التي لم تظلم فيها شخصية رئيسة على حساب أخرى، لاسيما ونحن نتحدث عن مجموعة غير قليلة من الممثلين رسمت أدوارهم بعناية، ربما أسلوب الإخراج الذي اعتمد المشاهد السريعة أحيانا والتقليدية تارة أخرى، زمنياً، قد جعل من حضور الممثلين متناسقاً وجميلا بمساعدة الإضاءة المتميزة والموسيقى المصاحبة. 
عدد من المشاهد كانت جميلة ومؤثرة مثل المشهد الختامي، الذي قدم فيه الممثل حسن هادي اداءً مميزاً، كما في مشاهد اخرى حضر فيها، حيث كان حسن/ بولونيوس الشخصية الأكثر حضوراً على خشبة المسرح، فالدور مركب والشخصية انتهازية لا تعرف غير مصلحتها، آمر القصر يبقى آمر القصر وبيت أسراره مهما أطيح برؤوس ونصبت أخرى، هو مستودع سر الحاكم والمطلع على الخبايا، المتلون الذي يمتلك أوراق نجاته، هذه الشخصية المحورية في العرض أجاد تأديتها ورسم صورتها الإخراج والفنان حسن هادي بمهارة، فكان الخيط الواصل بين كل الشخصيات، يداري رأسه بتنفيذ رغباتهم، فهو الأب والجلاد والقاتل والمستضعف الذي يستجدي نجاته بالتضحية بأولاده، وما اكثر هذه الشخصيات في يومنا هذا التي تجيد اللعب في كل زمان ومكان.
شخصية هاملت الباردة اليائسة، كسرت نمطية ما تعودنا عليه في شخصيتها التي كتبها شكسبير، فكانت مستفزة بعدم مبالاتها، وتركت دورها للحاشية أو للشخصيات الأخرى، إذ نجح العمل في تحييد دورها فجعلها حاضرة غائبة، رئيسة وثانوية في الوقت نفسه، تدور حولها وبسببها الأحداث لتبرز مسارات أخرى في العمل تغنيه مثل أسرة 
بولونيوس.  
حتى اوفيليا المغرمة بهاملت في نص شكسبير وسط رفض أبيها، أحبت أبن الملك في نص الأسدي ولكنها تركته بعد أن أحست أنه لا يريد أن يدافع عن عرشه أو الانتقاملأبيه، وكأنها تبحث عن اوفيليا الملكة لا الحبيبة الدافئة في أحضان رجل سلبي مستسلم للموت، هي ليست اوفيليا الضعيفة التي تنتحر لهجر حبيبها لها أو ادعائه الجنون أو قوله لها “اذهبي للدير”، هي اوفيليا التي حافظت على جمالها وعفتها بعد أن راودها الملك الجديد عن نفسها فأبت وكشفت سر قتله للملك فقتلها أبوها كما قتل هاملت والملكة.
شخصية غروترود/ زهرة بدن/ الأم، الناقمة أول الأمر والنادمة آخره، هي الأخرى نسجت منها شخصيته مختلفة نوعا ما، فالملكة لم تعد ملكة، لا يسمع لها رأي أو تطاع لها كلمة، وهي في أحضان جلاد، فخسرت الإنسان والحاكم في زوجيها الأول والثاني. 
كذلك الحال مع شخصية الفنان أمير احسان/ لايرتيس الذي أفقد النص بصره وأسبغ عليه معارضة الحاكم والجهر بظلمه. وكأن الشخصيات لها بعدان، الأول ما نعرفه والثاني ما قدمه النص، وكلا الشخصيتين تمتزجان مع بعضهما البعض من دون أن نخسرهما.. كل هذه التنقلات قد جسدت ووصلت بوضوح للمشاهد على مستوى الإخراج، فشخصيات بولونيوس، واوفيليا التي أدتها الفنانة الاء نجم بإحساس عال، هما أقرب للمركبة منها للشخصيات الأخرى الواضحة، ذات الخط الواحد، كل هذا التنوع شاهدناه على خشبة المسرح. تبقى شخصية هوراشيو الأقل حضورا على مستوى الحوار على خشبة المسرح، لم ينصفها النص، فمددت زمن العرض قليلا.
لقد كسر النص قوالب شخصيات مسرحية هاملت، إذا لم يكن القتل أو الانتقام أو موت الملكة أو اوفيليا أو لايرتيس أو بولونيوس هو هاجس النص، بل كان البحث في قضية الخيانة والفقد والظلم وتسلط حاكم دكتاتور الهاجس الأكبر. تحية لملاك العمل جميعا.