بين القهوة واحتراقها

ثقافة 2020/12/14
...

ياسين النصيِّر
 
تعودت كل صباح الاستيقاظ مبكرًا، بحدود الساعة السادسة والنصف، وفي السابعة، وكأي شخصية روائية تعاني من أمراض مبهمة، يجبرني المؤلف على تناول وجبة دسمة من حبوب العلاج لأمراض لأ نوي ذكرها، كي لا يتعكر مزاج القراء، ها أنا أبدأ باستهلال لمقالتي الجديدة أو مواصلة لما كتبته بالأمس. بالطبع أن ما أكتبه ليس قصة أو خاطرة، إنما هو شيء فيه من شعرية الحياة اليومية، شيء فرض علي تدوينه لأنه يتكرر كما لو أنه حبة أخرى من حبوب العلاج وعلي تناولها  بهدوء. 
هذه الحال التي تتكرر يوميًا، يحدث فيها شيئان مهمان: الأول هو أن أجهز  فنجان قهوتي المعتاد، فنجان كبير وليس فنجانًا صغيرًا، فنجان المرة الواحدة في اليوم، وكأنه جزء من محفزات العمل الذي سيكون دائمًا بنصف يقظة. 
الشيء الثاني هو البدء بتنفيذ الفكرة التي نضجت خلال الليل عن العمل الذي أشتغل عليه، أوعن موضوع جديد، لأني تعودت، ومنذ أكثر من أربعين سنة أن أكتب يوميًا، وفي الصباح تحديدًا، بحدود صفحة أو صفحتين فولسكاب، لأتفرغ بعد ذلك للقراءة. الشيئان يجريان سوية: القهوة على الطباخ، والفكرة في الشاشة، وحين استمر بالكتابة استذكر بين لحظة وأخرى أن قهوتي لا تزال لم تنضج بعد، كما لو أنها الفكرة التي اكتبها، ويحدث ان اتوقف عن الكتابة فحاجتي للقهوة حاجتي للتأمل، وفي أحيان كثيرة، وبعد أن أغور في تضاعيف الفكرة، انسى كل شيء: القهوة ومتعلقاتها.  بعد دقائق تصبح القهوة أثيرًا، تملأ رائحتها فضاء البيت، فحضورها الباذخ دليل على نسياني لها. كل الأحطاب المحترقة  تشترك في صناعة الغذاء.
احتراق القهوة/ الفكرة، يحدث في فضاءين: فضاء الشاشة حيث ينضج  طعام الآلهة على نار الكتابة المستعرة، وفضاء المطبخ حين تتحول القهوة إلى رائحة من كائنات مرئية تطوف فضاء مكتبتي. وفي الاستعارة، يكون الدماغ مطبخًا  لطعام الأفكار، بينما تكون القهوة أثيرًا يختلط بفضاء النَفَسْ، يستدعي الأحتراقان  حاجات الجسد، لذلك لا أستسيغ أن يعمل قهوتي أحد، كما لا استسيغ ان يكتب احد لي مقالتي،لأنهما أجزء مرتبطة بجسدي، حتى والقهوة تغلي يحدث أن يقترن فورانها بفوران الفكرة، وعندما يحرقها النسيان، أشعر بمرارة ما، إما أن يكون ذلك نتيجة لفساد الفكرة  أو نضجها السريع، ففي كلتا الحالين ثمة احتراق. هذا ما يحدث غالبًا، واليوم الذي لم تحترق قهوتي فيه، لم تكتمل فكرتي. استشعرت ذلك عمليًا في صباح هذا اليوم حين انتبهت إلى أثير قهوتي وهو ينتشرفي فضاء المكتبة حاملًا معه الأسئلة.  عندئذ شعرت أن مقالتي لم تكتمل بعد، فالنقص صنو الحياة، بينما الأكتمال طريق للموت.
 عندما أستحضر ذاكرة النسيان، أجد النسيان ذاكرة منتجة، بينما ذاكرة الإيجاب لن تكون منتجًة دائمًا، فقد يكون عملها  تكررًا لما مررت به، أو جزءًا من موروث السيرة الذاتية. ولذلك ستكون أهمية فنجان القهوة الصباحي في بلدان الغربة والهجرة، هو استحضار لذاكرة النسيان، وعندما تستحضر، ستحترق فناجين زمني كلها، أما إذا لم يحترق فنجان قهوتي الصباحي، يعني ذلك اني ارتضيت العيش في بلدان الهجرة الباردة، ففي الفنجان تقرأ تواريخ النسيان كلها، هكذا تقول العرّافات، حين تصبح القهوة مقياسًا للأثيرً المنتشرفي فضاء البيت، وهو يستدعي الشاشة وما فيها. ووسط ضباب الأثير الذي تنصهر فيه الأمكنة والأزمنة، أعيد حساب الأيام التي مضت: فأنا مقالة لم تكتمل. ووسط  آلاف الفنجانين المحترقة اجد نفسي رماد عنقاء لم تولد بعد.. 
في اللحظة التي أنهيت مقالتي هذه، نزل ضباب شفيف على الأشجار الخريفية ومصطبة الشارع ووجه يسير وهومكمم، فأغلق  الضباب نافذة الرؤية، وضيّع علي جزءًا من رؤية فضاء الشارع والحركة، وكأن بخار قهوتي المحترقة قد خرج إلى العالم، ليجلب معه الضباب ،ليدخلا سوية  شاشة مقالتي وفنجان قهوتي الفارغ، ثم يجلسا معًا على طاولتي، لقرءاة خرائط فنجاني/ مقالي  المحترق.