التنمية

ثقافة 2020/12/14
...

محمد صابر عبيد
 
تحتل هذه المفردة "التنمية" المقام الأول والأبرز والأخطر في أية نهضة تنويرية طليعيّة تنتهجها أمه من الأمم، هذه المفردة السحرية التي إذا ما نجحت الأمة في الإخلاص لها والسير في ركبِها فإنها تصل إلى ما تريد بكفاءة وقوة ووضوح، لا شيء مثل التنمية سلاحاً حضارياً بوسعه أن ينقل الأمم من الظلام إلى النور ومن النار إلى جنات النعيم، إنها المفتاح المركزي الذي يسمى في المصطلح الإنجليزي الشهير " GENERAL MASTER KEY" في حين تنتظم القضايا الأخرى المهمة لدى الأمم تحت هذا المفهوم أو بعده، لا شيء يتقدم على التنمية مطلقاً فهي قبل كل شيء، ولا يتم التفكير بقضية أخرى إلا بعد الانتهاء من رسم سياسة التنمية بما لا ينازعها أمر آخر. 
تعدّ التنمية العقلية والمعرفية في مقدّمة أنواع التنمية لأنّ استثمار العقل والمعرفة هو الأَولَى من حيث توجّه الحضارة الحديثة نحو العقلانيّة المعرفيّة، وهذه التنمية في حقل العقل والمعرفة هي التي تُحدِث الفارق الحضاريّ اللافت لدى الشعوب والأمم التي تشتغل عليها، فالرهان على العقل والعقلانية والمعرفة والمعرفية رهان صالح وقويم ومناسب وأصيل لأجل موقف حضاريّ من الحراك النهضويّ التنويريّ في العالم، لأنّ العقل هو رأسمال التنمية وذخيرتها التي لا تنضب، ومتى ما كان العقل هو المرجعيّة التنمويّة الأساس في طبقات الحراك التنمويّ الشامل والكامل؛ فإنّ فعاليات التنمية وأنشطتها المتعدّدة ستكون حتماً في أعلى مراحل نضجها وديمومتها وإنتاجها.
تأتي التنمية البشرية في مقام رئيس ومركزيّ آخر من حيث قيام الحضارة أساساً على طاقة بشريّة بوسعها أن تقدّم كفاءات متنوّعة في حقول مختلفة، وقد تكون الصين نموذجاً حياً في هذا السياق إذ لها في هذا المجال رأسمال ضخم جداً تستثمره أفضل استثمار لتكون القوّة الأبرز في العالم، ولا يمكن لأية قوّة أخرى منافستها حين تتساوى معها في طرق التنمية الأخرى، أليس من العجيب أنّها بهذا العدد الهائل من البشر لا تعاني من بطالة والكلّ يعمل وينتج؟ إنّها معجزة فعلاً بوسعها أن تكون درساً لكلّ أمّة تفكّر بالتنمية وتسعى نحو التقدّم الحضاريّ.
كثيراً ما لا يُنتبَه إلى نوع فريد وشديد الخصوصيّة من التنمية هو التنمية الثقافية، حين لا يُقدّرُ حجم القيمة الاعتباريّة التي تنطوي عليها هذه التنمية، لكنّ أيّة تنمية مهما كانت عظيمة من غير تنمية ثقافية موازية لها ستبقى ناقصة ولا يمكنها تحقيق أهدافها بالكفاءة المطلوبة، فهي في بعض مفاصلها وتأثيراتها وحساسيّتها قد تتقدّم أحياناً على التنمية الصناعية التي لا بدّ منها، وعلى التنمية الزراعية التي لا بدّ منها أيضاً، فمن غير تنمية ثقافية صحيحة وصالحة لا يمكن للتنمية الصناعية أو الزراعية أن تقوم بمهامها على الوجه الأكمل، إذ إنّ فلسفة التنمية تقوم على كتلة كبيرة لا يمكن أن تتجزأ، وهي في مفاصلها جميعاً متماسكة تماسكاً مصيرياً وبنيوياً، ويستحيل السير في مفصل منها وقطع شوط كبير فيه نحو التقدّم مع تخلّف بقيّة المفاصل.
فلو نظرنا إلى التنمية التربوية على سبيل المثال بوصفها أحد المفاصل المركزيّة في مشروع التنمية النهضويّ؛ ولا تنجح أيّة تنمية من غيرها، سندرك حتماً أنّ حصاد التنمية التربويّة يسريّ بقوة على مسارات التنمية الأخرى ويؤثّر فيها ويتأثر بها في الوقت نفسه، ولا مناص من الانتباه إلى خطورتها والعمل على أدقّ تفاصيلها بحيث ترقى إلى أعلى مراحلها الممكنة في الإحاطة والمعالجة والتطوير والتحديث، على وفق أحدث البرامج التربويّة المعتمدة في البلدان المتقدّمة، إذ لا بأس في أن نستعير سبل التقدّم والتطوّر من تجارب الشعوب السابقة ونفيد من تقاناتهم وإجراءاتهم في سبيل اختصار الزمن، والبدء من حيث انتهوا لا أن نبدأ من الصفر، لأنّ الحضارة العالمية والتنمية العالمية ينبغي أن تكون تجاربها متاحة للأمم جميعاً بلا استثناء.
أمّا التنمية السياحية فهي من الأنواع الضروريّة المهمة داخل الفضاء العام للتنمية، ولها تأثير حضاريّ في التأسيس لثقافة سياحيّة لا تتوقّف عند حدود العائد الاقتصاديّ الماديّ من تفعيل الحركة السياحيّة في البلد وتطويرها، بل إنشاء ثقافة سياحية لها علاقة وثيقة بالمزاج والذوق والتمدّن والتحضّر الذي ينبغي أن يتمتّع به المواطن، وهو يتعامل مع الفضاء السياحيّ العام برحابة وفهم وإدراك وطاقة إيجابيّة عالية، تروّج لهذه الثقافة وتنقلها من مستوى الكسب المجرّد إلى العطاء الكليّ والجذب الكليّ على طريق التواصل الحيّ الكفوء والراقي بين الشعوب.
وتأتي التنمية الأدبية في هذا السياق بوصفها شكلاً من أشكال التنمية الثقافية وربّما تكون في مقّدمتها، لأنّ الأمة التي تعمل من أجل الحضارة لا بدّ أن تفهم حاجة الروح لطاقةِ تحضّرٍ وتمدّنٍ توازي حاجة المادّة والاقتصاد، وتؤدي التنمية الأدبيّة الدور الفعّال الأقوى في مجال تثقيف الروح وتنميتها على نحو يناسب التطوّر الحاصل في المجالات الماديّة على اختلاف أنواعها، بما يعني في طبقة عليا من طبقات التفكير والحوار والتأمّل أنّ التنمية تنميات، تنميات في مختلف المجالات وعلى الأصعدة المتاحة كلّها، تسير في مسارات متوازية ومتقاربة على نسق واحد لا يجور مسار على مسار، بل تتلاحم هذه المسارات لأجل ثورة شاملة وعامة ومتكاملة تؤدّي إلى النتيجة المرجوّة التي وصلتها الأمم الكبيرة في نادي الحضارة.