سيمفونيات الأزقة

منصة 2020/12/14
...

  حسين فرحان
لطالما راودتنا فكرة الهروب من ضوضاء المدن وتلوث أجوائها إلى ريف لا تزال أصوات الديكة والعصافير تزين صباحاته، وإنْ اعترت أريافنا موجة الضجيج وألبستها الحداثة بعضاً من ثيابها لكنها تبقى -وبالقياس للمدن- مما تتوق إليه النفس لتنعم بشيء من الهدوء الذي افتقدته قناة (أوستاكي) ربما لسنوات طوال عند البعض.
لا يقتصر الأمر على الأرياف في انخفاض نسبة الضوضاء، فالسواحل والجبال والغابات وحتى الصحراء هي الأخرى أماكن قد تفوق الأرياف سكوناً ونقاءً، وتبقى مسألة اختيار واحدة منها رهن ظروف الراغب بالهروب وإمكاناته.
الكلام في رغبة الإنسان بنوبات من الهدوء وبحثه عن محطات استراحة يكاد يكون مما أجمعت عليه البشريَّة وسعت إليه، وكل ذلك لأنَّ المدن لا تهدأ مع نوبتين للعمل في كثيرٍ من منشآتها، واكتظاظها بالبشر والآلات رغم مراعاة الجهات المسؤولة فيها لمعايير مهمة في التخفيف من الضجيج المرخص به ومنع الضجيج والتلوث البيئي الذي يحدثه الإنسان متجاوزاً به حدود حرية الآخرين وتوسعة مساحة حريته الشخصيَّة، ومع كل هذه المراعاة لهذا الجانب في الكثير من البلدان، لكنَّ الرغبة الملحة في التنعم بالهدوء لدى سكان الحواضر لا تزال تشكل هاجساً يدفعهم للتخطيط من أجله، فالهدوء التام خيرٌ من الهدوء النسبي.
في مدننا، الأمر مختلفٌ جملة وتفصيلاً، فبالإضافة للضوضاء الرسميَّة التي يفرضها إيقاع الحياة في المدن، نشطت ضوضاء أخرى وسط غياب الرادع والمخطط
 للحياة. 
وفي ظل غيابٍ واضحٍ لإجراءات تشريعيَّة وتنفيذيَّة تواكب ما اتفقت وأجمعت عليه بلدان العالم في سبيل سعادة شعوبها أو العمل على راحتهم وهذا على أقل التقديرات ولعله أضعف الإيمان، فإهمال هذا الجانب منح البعض فرصة لرفع مستوى الضوضاء إلى الحدود الكارثيَّة التي تفوق جميع المعايير، وما تلك الأصوات التي تتردد في أزقتنا للإعلان عن منتجات الباعة المتجولين بأصواتهم وكلماتهم وألحانهم وبأبواق سياراتهم أو بمكبرات الصوت إلا نموذج صغير لانتهاك الحريات، فمتى يكف هؤلاء عن تقديم هذه السيمفونيات المزعجة مع ساعات الصباح الأولى لآذان سئمت من سماعها، ومتى تشرع القوانين وتنفذ كما في سائر البلدان لتمنع الفائض عن حاجة المدن من إزعاج دخيل لا ينتمي لضوضاء
 أصيلة.