الأهليَّة والرسميَّة!

منصة 2020/12/15
...

جواد علي كسار
حصل ذلك مرتين؛ مرَّة عندما عاندتني نفسي في أنْ أجرّبَ إدخال الرمز الخاص ببطاقة هاتفي لمرة جديدة، بعد أنْ فشلت المرّات الثلاث بتشغيل الهاتف، فمع أني أعرف أنَّ المحاولة الرابعة ستؤدي إلى حرق البطاقة، إلا أنني أقدمت عليها بوهمٍ اجتاحني من داخلي؛ بأنَّ شيئاً لن يحدث، فاحترقت البطاقة، وانهزم الوهم أمام لغة العلم وبرمجياته!
ما كان لي من خيار للحفاظ على محتويات الذاكرة، إلا مراجعة الشركة التي يرتبط بها رقم هاتفي النقّال، فكانت المفاجأة. كل شيء يختلف في مقرّ هذه الشركة، بدءاً من المظهر العام الجميل الجذّاب، إلى طريقة الاستقبال المهذّبة النازكة، والمنظّمة وفق بطاقة الدخول الخاصة من جهاز الاستقبال عند الباب، إلى الذوق الذي يملأ أركان المكان، إلى اللغة الناعمة التي يتحدّث بها الجميع وهم يتودّدون إلى المراجعين، مهما كانوا خشنين وجافين مثلي، إلى الإصغاء الحقيقي وفهم المشلكة بدقّة، ووضع خيارات الحلّ أمامك، وانتهاءً بمعالجة المشكلة، عندما استبدلت الموظفة الجذّابة الأنيقة، البطاقة المحترقة بالجديدة، فعاد هاتفي للعمل كما كان، وخرجت مسروراً راضياً تلقاء المال الذي دفعته، مقابل هذه الخدمة التي لم تستغرق من الوقت سوى بضع دقائق فقط!
حصل هذا قبل عشر سنوات مضت. وفي هذه الأيام حصل ما يشابه ذلك، لكن هذه المرّة مع مصرف أهلي، أجبرتني البيروقراطية الإدارية في بلدي، أن أوطّن راتبي فيه، مع أن ما جرى ليس توطيناً، ولست أريد العودة إلى هذه القصّة الآن. النزاكة والذوق والنظافة، تفرش بصماتها في فرع المصرف الذي راجعته. طريقة استقبال محترمة، ونظام جميل، في مراجعة النافذة المختصّة، إذ يرشدك الدليل إلى مكان تجلس فيه منتظراً، إلى أنْ يجيء دورك.
عندما وصلت إلى الموظّفة المعنيَّة نظرت في وجهي دَهِشة، فعرفت من فوري سرّ دهشتها، وقلت لها: أجل، أنا آخر موظّف في بغداد يراجع لتسلم راتبه! ثم أضفت لها موضحاً: لم أفعل ذلك إيماناً مني بالتوطين، بل كسلاً!
حصل في الأثناء التباسٌ بسيطٌ جداً، فطلبت مني مرافقتها إلى مكتب مديرة الفرع، فاكتملت المفاجأة. لم يكن الترحاب هو الصفة الوحيدة لهذه المديرة، بل ثَمّ عناصر أخرى كثيرة؛ منها أنها كانت مشغولة بحديث مع أحد الموظفين، فطلبت مني أنْ أجلس فور دخولي، خلافاً لما تفعله أغلب المؤسسات الرسميَّة، وهي تترك المراجع واقفاً، وكأنه كلب حراسة، يقف متأهباً بين يدي سيّده!
عندما انتهت من الموظّف، راحت تنصت وتهتم، ثمّ تشرح وتوضّح بلغة مؤدبة هادئة واثقة، مصحوبة بالدليل، وعندما حاولت محرجاً من لباقتها واهتمامها، أنْ أنهي الموضوع، رفضت، وقالت نصاً: لن تخرج من هنا، إلا بعد أنْ تقتنع!
حقيقة، شكرتها على سعة صدرها، وحُسن خلقها، وكريم معاملتها، وتبادلنا بعض الحديث عن سوء الحركة المصرفيَّة في بلدنا مقارنة بدول الجوار قاطبة.
وضعتني هاتان الحالتان أمام مفارقة كبيرة؛ هي الفارق بين سلوك الموظّف في المؤسسة الأهلية، وسلوكه في دوائر الدولة، فلماذا كلّ هذه المسافة الثقافيَّة والسلوكيَّة الشاسعة التي تنطلق من مجتمع واحد، لكنْ بأداءين؟!