صــورتــي

ثقافة 2020/12/15
...

 رعـد فاضل

 
 
(1)
أُصوِّرُني بنفسي، وأنشرُني في (الفيس بُك) وسواه من وسائل الانّترنت، يعني أنّي لست موجوداً حسب بل أنا معروف أيضاً، ويبدو أنّ هذا هو الأهمّ بالنسبة إليّ!: أن أكون معروفاً بـ(الصّورة) لا كما "كوجيتو ديكارت" بل في صور عدّة متنوّعة ومختلفة في بوزاتها أي الأحداث التي تشكّلها الصورة، وملابسها وزواياها. 
أتواصل بالتقاطها والظّهور بها في كلّ مرّة حتّى أصبحت الصّورة بديلاً رائجاً جدّاً عن الفكر. ما الضّير إذاً والحال هذه وكلا المبدأين: مبدأ الصّورة، ومبدأ ديكارت (أنا أفكّر إذاً أنا موجود) لا يشيران إلّا (إليّ أنا) في ظلّ هذا الزّخم الضّاغط الواسع المُحِبّ للصّورة والمعجب بها لا بفكر صاحب الصّورة؟ ثمّ إنّ التّصوير لا يتطلّب منّي سوى نَقرة على زرّ، كما لا يتطلّب نشر الصّورة سوى نقرة أو اثنتين. بما أنّ الفكر ينسحب وبمعنى أدقّ يُزاح رغماً عنه تدريجيّاً أمام زخم الصّور اليوميّ الهائل، أي أنّ العمق يهزم يوميّاً بل في كلّ لحظة أمام العموميّة، فإذاً أنا (أُوجد حيث لا أفكّر) أي أنا موجود بصورتي فقط، وما يحدّد تميّز صوري عن صور الآخرين ليس في الغالب أنا أو مَن التقطها حسب، وإنّما نوعيّةُ كاميرا المحمول وطبيعة الخلفيّة ومستوى مقبوليّة شكلي، وهذا التّميّز لا يحدّده سوى عدد ما ستحصد صوري من معجبين ومعلِّقين، وغالباً ما تكون هذه الإعجابات والتّعليقات خاضعة لسياسة التلفيق والنّفاق، وإذا ما أردت أن أتقدّم في سلّم هذا الحصاد ما عليّ إلّا أن أكون بارعاً في هذه السياسة. 
لا يمكن أن تحلّ الصّورة محلّ الكلمة لأنّ الكلمة صورة ولفظة ومدلول في آن معاً، بينما الصورة ليست سوى مدلول. الصّورة (تقصي الزمنَ الفعليّ) بينما الكلمة تثبّته وتتواصل معه، تشحنه بالفعل وتخلّف دائماً أثراً فيه. الصّورة تتوقّف حياتها تماماً مع لحظة وهج عدسة التّصوير، بينما الكلمة تمتدّ في جسد الزمن، الصورة زمنها افتراضيّ دائماً باستثناء لحظة الالتقاط، بينما الكلمة تحيا منذ لحظة كتابتها وتواصل العيش كلّما وُضِعت مع قرائنها في سياق ما لأنّ (الكلمات رموز وليست أشياء). 
الصورة مرآة المُصوَّر، أمّا الكلمة فكما موشور تمتصّ وتحلّل لتنعكس فيها أشياء العالم. الصّورة أحياناً منتَج ابداعيٌّ، أما الكلمة فمنتِج ومنتَجٌ في آن. 
الصّورة بلا زمن سوى ما يشير إليه التاريخ المثبّت تحتها أو في قفاها وطبيعةُ قَسَمات المصوَّر زمنَ التقاطها، هذه القسمات التي تتطلّب موادّ مثبِّتة لتنطبع على جسد ورقة الصّورة، أي إنّ الصّورة متموضِعة لأنّ زمنها متوقّف، فيما الكلمة متحركة لأنّها زمانيّة 
دائماً. 
الكلمة موحية لمرات بينما الصّورة مكتفية بذاتها ولذاتها ومغلقة صامتة، أما الكلمة فلا تُستنفَـد حتى بالاستعادة والتّكرار لأنها متنقّلة بين مواضع استخدامها، فما تعنيه إلى جانب كلمات ما قد لا تعنيه وهي إلى جانب كلمات أُخَر ما (لأنّ معناها لا يُدرك إلّا عن طريق القرائن) وهكذا باستمرار. 
الكلمة لا تموت إذ ليس لديها صورة من خارج ذاتها، ويكفي أن نتساءل: كم لدينا من صور ورقيّة مصفرّة وشاحبة تملؤها خدوش الزمن وفطورُه وأخرى الكترونيّة لا تشبهنا؛ لأنّها محرومة من زمنها التاريخيّ ومستلَبة من قِبل زمنها الآنيّ. 
كلّ ما هو منعكسٌ حبيسُ الصّورة التي ينعكس فيها سواء على وجه ماء أو في مرآة أو أيّ عاكس آخر. من هنا أليست صورة الشّيء المنعكس قد فقدت هويّتها الأصلَ لحساب ما أصبحت عليه، لحساب الصورة بوصفها منعكسةً، ذلك أنّ الصورة الأولى حقيقيّة فيما الثانية شبه ذلك، أي مزيّفة لأنّها قد تحوّلت إلى منظر أصبح صاحبها نفسُه يرى إليه كما سواه من النّاظرين منعكِساً؟ كلّما نظرت إلى صورتي في الماء أشعر أني مبتلٌّ، وإن كان زمن هذا النّظر شتاءً أشعر بالبرد، وإن كان ماء نهرٍ أشعر أنّي طافٍ وقد أوشِك على الغرق!
أمام هذا المنظر ستسخر الفيزياء وفي الوقت نفسه سيثنّي التأمّلُ عليه، ذلك أنّ الصورة المُتأمَّلة (ليست مأخوذة من العالم، فهي هنا تتخطّى العالم إلى ما بعدَ ما هو مدركٌ حسّياً). إنّه التأمل بوصفه صوراً معكوسةً في منظر تتطلّب منّا نحن أصحابها النّاظرون إليها (إلينا) طاقةً شعريّة سيكولوجيّةً لقراءتها، إذ إنّ كلّ من يتمتع بقدرة عميقة على التّخيّل هو بمعنى من المعاني خبير نفسٍ حقيقيٌّ وإن لم يكن في واقع التخصّص 
كذلك. 
(2)
الصورة الورقية (حقيقيّة) لأنها غير قابلة للتّلاعب بها، فيما تلك الرقميّة مزيّفة كونها مفتوحة دائماً على التغيير حذفاً واضافة، كونها قابلة أبداً للتّزوير، فقد أجد رأسي يوماً مركَّباً على جسد آخرٍ لغيري، أو أُكسى بأزياء ما أو تُجرى لوجهي عمليات تغيير تجميلاً أو تقبيحاً، وقد أجدني يوماً "فرانكشتاين" أو هولاكو، أو شيخ عشيرة بكوفيّة وعقال (كما حلا مرّةً لأحد الأصدقاء أن يفعل ذلك بي)، وقد أجدني سجيناً وراء قضبان أو بين أحضان امرأة لا أعرفها، حتّى تلك الشّخصيات كلّها لم تعد هي كما أنا لم أعد أنا لأنّني وتلك الشّخصيّات قد زُوِّرنا، لم يعد لصورنا الحقيقيّة وجود شخصيّ حقيقيّ نُعرف به، أي لم نعد نحن وإنّما صرنا أشباهنا، بل صرنا ملعوباً بنا، شُوِّهنا (الرأس لي والجسدُ لغيري، أو العكس)، لقد عُبِث بنا تماماً بعد أن أصبحت صورنا مَزيدةً ومشروعاً مفتوحاً على كلّ تبديل أو 
تنقيح. 
الصورة الورقية "بصمة" للمصوِّر تشير إليه مهما تقادم على صوره الزّمن كما البصمة الأدبيّة أو الفلسفيّة أو الفنيّة لكاتب أو فيلسوف أو تشكيليّ ما، إلى جانب بصمةٍ لـقَسَمات وجه ما وجغرافيا جسد ما غير قابلة للتحريف، وتظلّ أمينة على زمن تلك القسمات والجغرافيا بالنسبة إلينا نحن المُصوَّرين، بصمةٍ  بنت زمنها بل وليدةُ آنيّتها، لقد "كانت الفوتوغرافية فنّاً ووسيطاً"، طبعا ليس من الناحية السّيميولوجيّة بوصفها علامة أو دالّةً حسب، وإنّما من ناحيتها العضويّة أيضاً كونها جزءاً حيويّاً من كيميائيّة وجودنا منذ أمد 
بعيد.