رسائل مصطفى جواد إلى الكرملي.. كنزٌ معرفيّ نُشر مبتوراً

ثقافة 2020/12/16
...

حسين محمّد عجيل
 
بين سنتي 1928 و1941، وعلى مدار أربعة عشر عاماً، نشطت المراسلات الأدبيّة بين الدكتور مصطفى جواد (1906 - 1969) الذي تحل اليوم الخميس الذكرى الحادية والخمسون لرحيله، وأستاذه وصديقه الأب أنستاس ماري الكرملي (1866 - 1947)، فترك هذان الرائدان الثقافيّان الكبيران كنزاً معرفيّاً باذخاً، وسجّلا نادرا لتطورهما الفكري، مؤطراً آفاق انشغالاتهما واشتغالاتهما الثقافيّة الثرية في اللغة والتاريخ والأدب والصحافة والتراث الشعبي وعلم الخطط والترجمة، وموثقاً ليوميّاتيهما وصلاتيهما العميقة والفاعلة بالحركة الأدبيّة والثقافيّة في العراق والعالم العربي، فضلا عن المستعربين والمستشرقين، وكاشفاً عن أبعاد صداقة استثنائيّة أثمرت مشاريع أدبيّة وفكرية تعاوناً على إنجازها معاً.
تمثّل هذه المراسلات جانباً أصيلاً من تراث مصطفى جواد الذي اشتهر في الأوساط الشعبيّة ببرنامجه الإذاعيّ وبكتابه (قل ولا تقل) وأنستاس الكرملي صاحب مجلّة (لغة العرب) الذائعة الصيت، وهي أيضاً من التركة الثقافيّة لبلادنا في تاريخ نهضتها الحديثة، وهي تستحق أنْ تُنشر وأنْ يُعرّف بها على أوسع نطاق، وقد عكف الدكتور محمّد حسين الزبيدي على إخراج جانبٍ واحدٍ من هذه المراسلات المهمّة، فنشر سنة 2011 كتاباً بعنوان «رسائل الدكتور مصطفى جواد إلى الأب أنستاس ماري الكرملي»، صدر عن كليّة التربية بجامعة القادسيّة، ووضع الدكتور الزبيدي على غلافه صفة (شارح!) ومحقّق، والصفة الأولى ممّا لم تألفه الكتب المنشورة في هذا الباب، وكنّا نتمنى أنْ يظهر الكتاب بما يليق بمكانة هاتين الشخصيّتين في تاريخ بلادنا الثقافيّ، وأنْ تتوفّر له كلّ عناصر النجاح محتوىً وشكلاً، ليكون إضافة حقيقيّة للمنشور الضئيل في المكتبة العراقيّة والعربيّة من كتب أدب الرسائل، ولكنّ نشرة الكتاب جاءت- من أسفٍ- سقيمةً ناقصةً مشحونةً بالأغلاط من كلّ نوع.
 
روفائيل بُطّي أم روفائيل بابو إسحق؟
لقد هالني- عند اطلاعي على صنيع الدّكتور الزبيدي- ما وجدته فيه من أخطاء جسيمة، عجبت من وقوع أستاذ أكاديميّ بها، ولكثرتها وتنوّعها، رأيت أنْ أقسّمها على عدّة فئات: ففي القسم المخصّص لسيرة مصطفى جواد من مقدّمة الكتاب يزعم الدّكتور الزّبيدي (ص13) أنّ مصطفى جواد «تولّى نقدَ الكتاب الذي ألّفه روفائيل بطّي لقواعد اللّغة العربيّة التي أقرّت وزارة المعارف تدريسه في مدارسها الابتدائيّة»، وهذا وهمٌ منه، فليس لروفائيل بطّي كتابٌ في قواعد اللّغة العربيّة، والصّواب أنّ الكاتب الذي انتقده مصطفى جواد بشدّة على محتوى تآليفه التي أقرّتها وزارة المعارف مناهجَ تعليميّةً، إنّما هو روفائيل بابو إسحق، والغريب أنّ الدّكتور الزّبيدي استقى الفقرة المقتبسة أعلاه وما تلاها من كتاب جعفر الخليلي «هكذا عرفتهم»: 3/102، ولكنّه أقحم اسم روفائيل بطّي بدلاً من روفائيل بابو إسحق.
ويقول الزّبيدي (ص13)، من دون تثبّت أيضاً، إنّ مصطفى جواد «نُقل إلى المدرسة المأمونيّة إحدى مدارس الكاظميّة (سنة 1928)». وفي كلامه وهمان؛ الأوّل زعمه أنّ المأمونيّة من مدارس الكاظميّة، والصّواب أنّ موقعها كان في الميدان وسط بغداد، ومن المفارقات ذات الدلالة أنّ الدّكتور الزبيدي سبق له أنْ أعدّ للنّشر مذكرات وزير الماليّة في العهد الملكيّ رؤوف البحراني، وحقّقها، وصدرت طبعتها الأولى ببيروت سنة 2009، وقد جاء في هامش الصّفحة 139 منها قول البحراني: «قام الملك فيصل الأوّل بزيارة خاصّة إلى المدرسة المأمونيّة الابتدائيّة، وكانت مدرسة متميّزة في الميدان من بغداد، وتجوّل في صفوفها وقام بتدريس بعض الموادّ على طلّاب الصفّ السادس فيها»، فكيف يفوت الدكتور الزبيدي هذا التحديد لموقع المدرسة مع أنّه نشر رسائل مصطفى جواد إلى الكرملي بعد عامين من نشره مذكّرات البحراني؟
 
البعثة إلى القاهرة
أمّا الوهم الثّاني فقوله إنّ مصطفى جواد نُقل إلى هذه المدرسة سنة 1928، والصّواب أنّ ذلك جرى سنة 1932، وكنتُ قد بيّنتُ المحطات المهنيّة في حياة الدكتور مصطفى جواد العلميّة وغيرها بتفصيلٍ وافٍ في بحثي الموسوم «استدراكات على باحثين وكُتّاب تناولوا سيرة العلّامة مصطفى جواد» المنشور بستين صفحة في العدد الأخير من مجلّة المجمع العلمي العراقي، وهو الجزء الثاني من المجلّد السابع والستين الصادر قبل شهرين، ويضمّ البحث عرضاً موثّقاً لأوهام ومزاعم وغلطات كثيرة بحسب التتابع الزمنيّ لسيرة مصطفى جواد، وقع فيها 26 مؤرّخاً وباحثاً وأكاديميّاً وكاتباً، مع تصويبات لها.
وذكر المحقّق الفاضل أنّ مصطفى جواد سافر سنة 1934 إلى القاهرة لتعلّم اللغة الفرنسيّة قبل أنْ ينتقل منها إلى جامعة السوربون بباريس. وهذا غير صحيح، فإنّ تاريخ وصول مصطفى جواد إلى القاهرة مُبْتَعَثاً كان يوم 12 أيلول 1933، كما جاء في رسالة بعث بها هو نفسه إلى الكرملي بُعَيد وصوله إلى القاهرة، ومن غير المعقول أنْ يشايع الزبيدي- وهو ناشر رسائل مصطفى جواد إلى الكرملي- كُتّاباً وباحثين ذكروا هذه المعلومة المغلوطة مثل جعفر الخليلي ومير بصري ومحمّد جميل شلش وعبد الحميد العَلَوْجي والدكتور محمّد عبد المطّلب البكّاء وغيرهم، من الذين لم يطّلعوا على تلك الرسائل التي يذكر مصطفى جواد في إحداها تاريخ وصوله إلى القاهرة، وكان بإمكان هؤلاء الباحثين الرجوع إلى «الدليل العراقيّ الرسميّ لسنة 1936» الذي وردت فيه جداولَ بالبعثات العراقيّة منذ سنة 1922 حتّى عام صدوره، وقد جاء فيه اسم مصطفى جواد في التّسلسل (1) في أعضاء بعثة سنة 1933، وكان من اللّافت أنّ سنة 1934 تحديداً كانت من بين عامين فقط من المدّة التي يغطّيها الدّليل، لم تبتعث فيهما وزارةُ المعارف العراقيّة أيّ طالب.
 
أخطاء جسيمة في نصوص الرسائل
أمّا ما في ما يتعلّق بمتن الرسائل ونصوصها، فقد كانت الأخطاء كبيرة ولا تُغتفر، فمنها أنّ الدكتور الزبيدي حذف رسالتين كتبهما مصطفى جواد باللّغة الفرنسيّة، مع ملحق بالفرنسيّة كان في ذيل رسالة ثالثة، من دون أنْ يشيرَ إلى ذلك، وفي هذا من التّجاوز على كاتب الرّسائل والقارئ ما فيه، مع أهميّة الرسالتين في التّعريف بمستوى مصطفى جواد في هذه اللّغة، وما تضمّنها من معلومات تعدُّ جزءاً من سيرة الرّجل.
ومنها أنه لم ينشر رسالة مصطفى جواد الأخيرة إلى الكرملي، التي أرسلها إليه من بغداد، وكان الكرملي في بغداد أيضاً، يوم 29/ 12/ 1941، وهي رسالة قصيرة مكتوبة باللغة العربيّة، ولا أعرف سبب إغفالها، ولعلّه أغفلها لأنها لا تستجيب لتقسيمه الغريب لفصول الكتاب، التي سأوضحها في نقطة تالية.
ومنها أنّه حذف- من دون أن يشير إلى ذلك أيضاً- عشرات المقاطع من الرّسائل التي كتبها مصطفى جواد بالفرنسيّة، تخصّ عناوين كتب، وأسماء شخصيّات ومواضع، فضلاً عن اقتباسات، وعبارات اقتضاها نقاشه العلميّ مع الكرملي.
ومن الأخطاء المنهجيّة التي وقع فيها الدّكتور الزبيدي، أنّه شرح في (ص 5) من مقدّمته، سبب تقسيمه الكتاب على خمسة فصول بالقول: «وقسّمنا الكتاب على خمسة فصول، ومقدّمة، ولم تكن هذه الفصول متساوية لاختلاف عدد رسائلها، إذ ضمّ كلّ فصل من فصول الكتاب مجموعة من الرّسائل التي أُرسلت من إحدى الدّول الثّلاث التي عاش فيها مصطفى جواد»، وفي هذا تناقض واضح، إذ يحدّد أنّ عدد فصول الكتاب هي بقدر عدد الدّول التي بعث مصطفى جواد منها رسائله إلى الكرملي، وهي ثلاث دول فقط، في حين جعل فصول الكتاب خمسة.
ومن تفصيله اللّاحق لهذا التّقسيم يتبيّن أنّ معياره الآخر، هو مكان وجود الكرملي متلقي الرّسائل، لذلك قسّم رسائل مصطفى جواد المرسلة من فرنسا إلى قسمين بحسب مكان وصولها إلى الكرملي بين بغداد والقاهرة، ويظهر أنّ ثمة اضطراباً غير مبرّر في شرحه لفحوى هذا التّقسيم، فهو مثلاً أدرج الرسالة التّاسعة التي وجّهها مصطفى جواد الذي كان مقيماً وقتها ببغداد إلى الكرملي الذي كان في القاهرة، في الفصل الأول الذي سمّاه: «رسائل من دلتاوة إلى بغداد»، مع أن المرسل كان في بغداد والمستلم كان في القاهرة.
ومن المؤسف أن تتداخل في طبعة الكتاب حروف الكلمات بعضها ببعض، وتلتصق كلمات بأخرى على نحوٍ مزعجٍ عند القراءة، وكان على المحقّق أنْ يصحّح تجارب الطبع لتفادي مثل هذه الأخطاء التي شوّهت الكتاب، والأمثلة على ذلك استغرقت الكتاب كلّه، وهي أكثر من أن تحصى.
خطّ مصطفى جواد وخطّ الكرملي
وفي الرسالة الاولى (ص 25) لم يتمكّن المحقّق الفاضل من فرز خطّ الكرملي من خطّ مصطفى جواد، فدمج عبارات الأخير مع الأوّل في الهامش 8، والحقّ أن العبارات الآتية: «سألحّ أنا عليهم إذن إلحاحاً شديداً، حتّى أنّ أحمد حامد أفندي صرّح بأنّه يتهدّدهم بكتاب إذا لم ينشروه فيها»، التي عدّها الدكتور الزبيدي للكرملي إنّما هي لمصطفى جواد، ولا أعرف كيف فات ذلك على 
المحقّق مع أنّ خطّ مصطفى جواد واضح تماماً، ويتميّز عن خطّ الكرملي.
وفي الرسالة الثّانية، لم يتمكّن المحقّق من قراءة تاريخها، وهو 16/ 1/ 1930، فأضاف سبعة شهور من عنده ليكون التّاريخ 16/ 8/ 1930، مع أنّ مصطفى جواد ذكر في متن الرسالة تاريخ اليوم السّابق، وهو 15/ 1/ 1930، فجعله المحقّق الفاضل 15/ 8/ 1930 أيضاً، وكان عليه في هذه الرسالة أن يبيّن للقارئ أنّ مصطفى جواد أجاب على سؤال قارئ للمجلّة بشأن لفظة «تفانى» في العدد الصّادر في تشرين الأوّل- اكتوبر 1930 من سنتها الثامنة، ص 787 - 790. مع أنّ مثل هذا الهامش قد يفيده في ترجيح كتابة تاريخها الذي ارتآه، لكنّ الأرقام واضحة، ولا تتقبّل جدلاً، وقد قرأ الكلمة الأخيرة في هذه الرسالة بصيغة «أكثر» وهي في الواقع «الكرم».
في الرسالة الثالثة ص 27، لم يتمكّن المحقق الفاضل من قراءة جمل واضحة، مع أنّ الرسالة مكتوبة بخط شديد الوضوح، فقرأها على نحو مغلوط، فعبارة مثل: «إن لم يُنسنيه الشيطان»، قرأها: « إن لم ينسي الشيطان»، وعبارة:» قرأتُ في ما قرأتُ من مسوّدات لغة العرب»، جاءت في الكتاب بصيغة: « قرأت ما قرأت من مسوّدات لغة العرب».
ويضع المحقّق في ذيل الرسالة الرّابعة ص 29، هامشاً غريباً لا صلة له مطلقاً بالرسالة ولا بموضوعها، يتضمّن بيتي شعر قالهما مصطفى جواد في أواخر أيّامه سنة 1969، مع أنّ الرسالة كُتبت في 4 نيسان 1931، ولعل البيتين قفزا من مقدّمة الكاتب إلى هذا الموضع من الكتاب! والعجيب أنّ صفحة المتن التّالية تضمّنت مادة هامش 18، وهي تعريف مطوّل بداود الجلبي، ممّا يدلّ على مدى الإهمال الذي رافق نشر الكتاب.
وفي الرسالة 6، ظهر من خلل طبع الكتاب، ومن قلة اهتمام الناشر والمحقّق بإخراج هذه الرسائل درجة لا يمكن القبول بها، فلقد اختفى أكثر من نصف الرسالة المؤلفّة من ست فقرات وجدول تصويبات، وظهر بدلاً عنه هامش تعريفيّ بالرصافي مختلطاً بالمتن، ص 32-33، ولم تظهر من الرسالة إلّا الفقرات الثلاث الأولى منها، وفي هذا من التحريف لمحتوى الرسائل ومن الإساءة لذكرى مصطفى جواد ما فيها.
هذه نماذج فقط من أخطاء كارثيّة في كتاب «شرحه وحقّقه» أستاذ أكاديميّ، وأصدرته جامعة عراقيّة، وهي تكفي لوصم الكتاب بأنّه إساءة بالغة إلى ذكرى مصطفى جواد، وإلى البحث العلميّ، وتقتضي المسؤوليّة الأخلاقيّة على المحقّق والناشر أنْ يسعيا إلى إعادة طبعه بما يليق بسمعة الأكاديمية العراقيّة وبذكرى العلّامة الجليل كاتب تلك الرسائل.