لغةُ الفيسبوك: لغةٌ عربيةٌ جديدةٌ

ثقافة 2020/12/18
...

 محمد صابر عبيد
 
 
ترتبط اللغة العربيّة بمجموعة من العلوم التفصيليّة الإجرائيّة التي لا تقوم لهذه اللغة قائمة من دونها، مثل علم النحو والصرف والبلاغة وفقه اللغة في سياق بلوغ مرحلة ما يصطلح عليه «الفصاحة» التي هي نقيض «اللحن»، ولو نجري مسحاً تاريخياً لهذه اللغة من بداية نشوئها حتى الآن سنتلمّس تراجعاً مستمراً لتأثير هذه العلوم في مسيرتها، وقد وصلت أوج تراجعها في العصر الحديث بطبيعة الحال، مع أنّنا شهدنا في مراحل سابقة دعوات كثيرة لإلغاء الإعراب لأنّه في نظر دعاتها يعيق تطوّر اللغة واندماجها بحيويّة العصر، لكنّ هذه الدعوات لم يُكتب لها النجاح ربّما بسبب أنّ «القرآن الكريم» بلغته العربيّة الصافية حال دون ذلك.
أحدثت وسائل التواصل الاجتماعيّ قفزة حضارية هائلة في تداول الناس للغات جميعاً، ومنها اللغة العربيّة، ونشأت أساليب تداوليّة جديدة ومختلفة لاستخدام اللغة العربية في منصّات التواصل وفي مقدمتها «الفيسبوك»، ونقرأ بين الحين والآخر كثيراً من الانتقادات حول ما يقترفه المدوّنون على هذه المنصّة من أغلاط فاجعة، على الصعيد النحويّ والصرفيّ والأسلوبيّ والبلاغيّ بحيث يطول الأمر فئات مثقفة من خريجي الجامعات، لا بل من خريجي أقسام اللغة العربية وبعض من الحاصلين على شهادات عليا في اللغة والأدب، ولا أقول من أساتذة هذه الأقسام في جامعات عربيّة مختلفة!
 وصرنا نطالع منشورات يعبّر فيها أصحابها عمّا يرغبون بأقصى درجات الحريّة وبلا أيّ رقيب من أيّ نوع، بصرف النظر عن النحو والصرف والبلاغة والأسلوب، ولسان حالهم يقول إنّهم أحرار في استثمار هذا الحقّ وليس من حقّ أحد أن يعترض على ما يدوّنون، ومن لا يعجبه المنشور بوسعه أن يحذفه أو يلغي ظهور منشوراته عنده أو حتّى متاح له أن يحظره تماماً من التفاعل معه، بمعنى أنّ من يتصفّح عارضة الفيسبوك ليس مضطراً لقراءة ما لا يعجبه وبوسعه إهماله بسهولة، من غير أن يحرق أعصابه ويشنّ هجوماً كاسحاً على الآخرين مطالباً إياهم الالتزام بقواعد اللغة العربيةّ وصرفها ونحوها وأساليبها المعروفة، ويحفظ هو ما يكتب بالفصاحة التي يراها مناسبة ويدع ما لقيصر لقيصر وما لله لله ويستعين بما تيسّر من الصبر.
لا بدّ من معاينة هذه المشكلة من زاوية أخرى ذات طبيعة سوسيوثقافية لا لغويّة محض، تتمثّل في أنّ منصّات التواصل الاجتماعيّ ولاسيّما «الفيسبوك» تشبه على نحو ما «المقاهي الشعبيّة» التي يرتادها الناس جميعاً، لا بل أوسع وأكثر شمولاً وتنوّعاً وتعدّداً منها، وهي توفّر لمرتاديها «ممّن لديهم حسابات رسميّة» الحرية المطلقة في كلّ ما يرغب أن يكتبه من كلام أو يعرضه من صور أو أفلام أو غيرها، إلى الدرجة التي يرى فيها كثيرون أنّ هذه الحريّة يجب أن تُقيّد بحكم ثقافة بعضهم وتربيته وحساسيّته وانتمائه، فنشأت على هذا النحو «لغة عربية جديدة» هنا تأخذ حريتها في التداول والتفاعل بعيداً عن الشروط التقليديّة المرعية في جوهر هذه اللغة، لغة ضاغطة على المحيط الذي تعمل فيه وتستشري في مساحاته استشراءً عجيباً، وتحوّلت إلى ظاهرة كبيرة لا بدّ من التعامل معها على نحوٍ ما لاستحالة إلغائها والعودة إلى حواضر الأصول.
تقضي الناس جلّ أوقاتها اليوم على هذه المنصّات، تتكلم وتقول وتروي وتتصاهر وتبيع وتشتري وتتاجر وتفعل كلّ شيء من غير الحاجة إلى الشارع والسوق والحياة الطبيعية العامة، ثمّة حياة أخرى تكمن فينا وعلينا أن نفهمها ونعترف بوجودها، ونقرّ بما ينعكس من هذه الحياة على مستقبلنا ونعيد إنتاج ذواتنا على هذا الأساس كي لا نكون خارج التاريخ وخارج الحضارة.
إنّ جمال اللغة العربية وسحرها لا يُضاهى، وقد أنتجتْ متوناً إبداعيّة خلاقة طوال عصورها –شعراً وسرداً- ظلّت شاهداً حياً على عظمتها، لكنّ الزمن يتطوّر ويندفع إلى الأمام بقوّة هائلة لا تتيح له فرصة الالتفات نحو من يتساقطون من جعبته، لأنّه لا يسقط سوى أبناء الماضي الذين يفضّلون الانتحار على الالتحاق بعربة خاطفة من عربات المستقبل. لننظر إلى لغة «الفيسبوك» بكلّ شوائبها وأغلاطها وركاكتها وفجاجتها ومشكلاتها اللغوية والأسلوبية -تعبيراً وتشكيلاً- على أنّها لغة راهنة ومهيمنة ومنتشرة مثل فيروس جديد، ولنا أن نتركه يعبث بنا كما يشاء، أو نتعايش معه، أو نجتهد في ابتكار لقاح ناجع له.