المنهج اللساني واللغة

ثقافة 2020/12/18
...

  محمد يونس
 
 
بعد التطورات التي شهدها علم اللغة في أحد المناهج حديثة الدرس وقديمة الأداء، حيث شهدت اللغة تداولاً عبر آليات المنهج اللساني، لحل اشكاليات معرفية قد انعكست على مستويات توافقية وخلافية عدة، فكانت اللغة والمنهج اللساني عرضة لتلك المستويات، وبما أن اللغة علم واسع ومترام، فهي تستوعب كل التطورات، وحتى الحساسة منها، وإما المنهج اللساني فهو يقوم بتقنين ومنهجة تلك المستويات، لذا حسب سوسير قد (جاءت اللسانيات حاملة طابعا علمياً لا يفسر اللغة بشيء خارج منها)، وأكدت هدفاً منهجياً ذا قيمة أساس، بها تكتسب اللغة النظام، الذي لا يجعل الكلام الاجتماعي ينمو تجاهها ليتدرج في تضييق مساحتها، وبالتالي يكون تأثرها بحساسية عالية، ويشهد وجودنا العربي تأكيداً لذلك التدرج.
سعت المنهجية من قبل العقليات الكبرى التي دعت إلى التفريق بين لسانيات اللغة ولسانيات الكلام، لكن هذا التفريق بقي في مجال الدرس، وبعض الطروحات النظرية، وبالرغم من الأهمية القصوى التي يشكلها هذا التفريق، بقي عاجزاً أمام المجال التاريخي لتداخل الكلام باللغة، وحتى ما يشكله الأدب من التزام لغة نحوية، لم يمنعه عن تداول الكلام، وما تمكن المنهج العلمي من التفريق إلا في حدود طروحاته النظرية، وبقيت هناك سمة بنيوية نسبياً التزمت تداخل اللغة والكلام في نسب معينة، وحسب ما تفرضه السياقات اللغوية المتداولة، ولكن يخضع هنا الكلام للنحو إلا ما استثني من ذلك، ولا يعني هذا ذهاب الجهود العلمية ادراج الرياح، بل أنها سعت إلى تحقيق نتائج علمية، وقد بلغت من تحقيق هدفها العلمي حداً توفيقياً في المجال العلمي، وأكدت ثبات خطابها العلمي.
إن تفسير علاقة اللغة بالمنهج اللساني، تفسير وفق علاقة التحرك في مساحة واسعة بين توافق الجهتين، وأن سعت اللغة إلى الاتساع الضامن لمستويات هي مختلفة من جميع توجهاتها، وما تركت الكلام في الجهة الأخرى البعيدة عنها، بل استوعبته هو وما كان من لسانيات اجتماعية، وسعة اللغة مرنة تستقبل حتى الشوائب، وإن كان هذا يتعارض مع روح المنهج اللساني، والذي يهدف إلى تحديد ملامح اللغات الثانوية على شكل خانات، لتحافظ على نظام اللغة اللسانيات من خلالها، وطبعا تلك ليست صرامة بالمعنى المعهود، بل صيغة منهجية تهدف اخضاع العقل الجمعي للغة إلى سياقاتها بشكل مباشر، لكن ذلك لن يكون داخل العقل الجمعي للغة، بل خلال آليات المنهج اللساني، وحدود النظرية وما تقترحه على الدرس اللساني. 
ثمة أمر دعا إليه «دو سوسير» فهو يرى أنه ينبغي أن يدرس كل شيء يتصل بنظام اللغة اعتباطياً، ومن زاوية العلامة اللغوية، ويراها وسيلة معتبرة لدراسة الظاهرة اللسانية، وهذا الأمر يحتمل وجهة نظر فلسفية أكثر مما هي وجهة نظر علمية الصفة تحديداً، ومن وجهة نظر جانبية نرى أن دعوة «دو سوسير» هي ذاتية أكثر منها عامة، وكتفسير لا يرمي إلى هدف محدد، وبهذا يخرج من صفة التعميم، ويكون خارج سياقات منهج معين للسانيات، ومن جهة بعده الفلسفي هو ليس بمضمون أرسطي يجد له توافقات، بل هو يشكل سمة أفلاطونية في تفسيره، ويشكل في نظرية التلقي مفترقات حساسة بين القبول والرفض.
إن العلاقة عبر عنصر الزمن بين المنهج اللساني ومتن اللغة، لا بدّ أن تمر بوجهات نظر تجدد، وليست محددة الطابع، والتطورات الهائلة التي مرت بها اللسانيات نظرياً، قد أغنت اللغة وطورت مضامينها بشكل مستمر، وصارت اللغة المتعاصرة لا تعارض صفتها التاريخية، بل صارت هناك علاقة توافقية بين تاريخ اللغة ومعاصراتها، لكن بعدما جعل المنهج اللساني تلك العلاقة تقوم على قطبين متقابلين، أحدهما يمثل تاريخانية اللغة، والآخر يقوم بتمثيل سمة تعاصرها. وطبعا لا ينجذب قطب لآخر، لكن هناك علاقة بنيوية تميزهما بشكل مشترك، وقد تجنبنا المخطط «السوسيري» لأنه يفترض شكلاً رياضياً للعلاقة، بينما هي قائمة ببعد نظري متصور، ولا يتميز بيقين علمي نتفق عليه بشكل عام.