قبل سنوات طويلة، كنت أمرّ في إحدى أسواق الخضراوات في بغداد عندما تملكني الفضول للإنصات لحوار دار بين رجلين في عقدهما الثالث، على وفق تصوري، وبينما أطلتُ الوقوف وأنا أتطلع إلى واجهة متجر للمواد المنزلية كان يشرف على سوق الخضراوات، واصل الرجلان تحاياهما والأسئلة المعتادة عن الصحة والأهل والأخبار والأحوال ثم انتقل الحوار تدريجياً للموضوع الأكثر جاذبية؛ الوضع المادي والعمل ولقمة العيش، سرعان ما نظر أحدهما إلى الكيس الصغير الذي يحمله الآخر بخيبة واضحة وهو يقول: "الحمد لله على كل حال، المهم نتدبر أمر العلاَكة"، وكان يعني بالعلاكَة؛ كيس التسوق اليومي الذي يحتوي على مواد غذائية بالكاد تكفي لإطعام أفراد الأسرة يوماً واحداً وربما وجبة واحدة!
أدهشتني العبارة التي كنت أسمعها للمرة الأولى في ذلك اليوم الصيفي البعيد، وما زلت حتى اليوم تتملكني الحيرة كلما طرأت لي هذه الفكرة الغريبة؛ ترى هل يمضي العديد من الناس أيام حياتهم وهو يتطلعون إلى هذا الكيس اليومي من الطعام وكأنه منتهى غاياتهم؟
كنت أعلل حيرتي بأن ألقي باللوم على هؤلاء، فمن غير المعقول أنْ يقطع المرء سنوات حياته الغالية بهذا الاستسلام غير المبرر لضائقة العيش، الاستسلام للأمر الواقع وكأنه قدرٌ محتومٌ لا راد له، بل إنَّ هذا النوع من الناس طالما أثار حنقي؛ فما الداعي لأنْ يحكم المرء على قدره حلقة ضيقة لا تتسع سوى لرغبات بسيطة يمكن أنْ تتفوق عليها رغبات أي قطة تمرّ في الشارع لا تحلم سوى بكيس طعام يكفيها شرّ الجوع، في حين إنَّ العالم الواسع يكمن خلف ظهره؛ عالم من الاجتهاد والسعي والطموحات والأحلام المرسومة بحرفية يكفي لتحقيقها بذل مزيد من الجهد أو حتى الدخول في منافسة خفيفة مع طموح
عنيد.
لكنَّ الأمر لم يكن بهذه الصورة أبداً، وكنت أمتلك الكثير من سوء التقدير والسذاجة في ذلك الوقت دفعني إلى أنْ أقيّم حياة هذين الرجلين البسيطين بنظرة للأمور كانت قاصرة. من دون شك، كان لهؤلاء أحلام وطموحات قد تتجاوز كثيراً (علاكَة) طعام بسيطة.. طموحات بعيشٍ رغيدٍ فيه من الكرامة وعزة النفس وربما الرفاهية حتى بصورتها المحدودة؛ الرفاهية التي لا تجعلهم تحت وطأة قلق دائم من أنْ يمّر عليهم مالك الدار يوماً وينذرهم بالطرد تحت إلحاح وطلب من مستأجر آخر يمتلك كيس طعام أكبر ونقوداً أكثر.
تقف المعوقات والأقدار العنيدة في طريق بعض الناس، فلا يملكون لها دفعاً حيث تطوح بجسد أيامهم شمالاً ويميناً من دون مقاومة تذكر، هذه الأقدار قد تأتي على شكل سوء حظ، ضياع فرص التعليم، مرض أحد أفراد الأسرة، موت الآباء في عمر مبكر من أعمار أبنائهم، فقر متوارث، رابطة زواج فاشل، ضياع أملاك الأسرة في صفقة تجارية فاشلة أو ببساطة، سوء تقدير للأمور. هكذا، تستمر حياة رجال وسيدات على وتيرة الانتظار القاتل على أمل أنْ يتم تجاوز المصائر التي صنعتها لهم أقدارهم أو سوء طالعهم، ونادراً ما يتم تجاوزها أو القفز على موانعها.. فالبدايات الميتة غالباً ما تؤدي إلى نهايات
ميتة.