عن الظواهر الغنائيَّة ومفارقاتها

منصة 2020/12/19
...

 ميادة سفر
لو قررت السيدة فيروز اليوم "مثلا" أنْ تقيمَ حفلا في إحدى أكبر الصالات، لا شك أنَّ الصالة ستمتلئ حتى لا يبقى مكانٌ شاغرٌ، وسنرى العشرات يتدافعون لحضورها ولو وقوفاً أو افتراشاً للأرض، 
هذا على ضفة.. وعلى ضفة أخرى، فإن أي "فنان" ممن تعج بهم الساحة الفنيَّة، ويملؤون الدنيا بالصراخ والزعيق!.. أيضاً لا شك، ستمتلئ الصالة التي يقيم فيها حفلا!.. هو أمرٌ يدعو للاستغراب للوهلة الأولى، ويدعونا للتساؤل عن سر هذه المفارقات العجيبة الغريبة؟!. 
ظاهرة تستحق الوقوف عندها، وسرّها من عمر الفن، ذلك أنَّ الناس أذواق، ولكل ذائقته الفنيَّة والموسيقيَّة التي ينجرّ وراءها، وثقافته التي تحضر بكل زخمها وهو يختار اتجاهاته وميوله، ولكل ظاهرة جمهورها، وهذا يعني بكل تأكيد أنه لا يجوز لنا إلا أنْ نحترم كلتا الظاهرتين، ولا يحق لأحد مصادرة ذائقة الناس أياً تكن، لكنّ القول الفصل والحاسم والحكم النهائي يكون لتلك المسيرة الفنيَّة التي تبقى وتدوم مع مرور الأيام 
والسنوات.
كم من أغنية مما تمتلئ بها الإذاعات "كسّرت" الدنيا لأيام، ثم انطفأت واندثرت ولم يعد أحد يتذكرها، وصارت أثراً بعد عين، حتى في ذاكرة من رددها وتراقص على أنغامها، بل إنّ هذا البعض ربما يتأفف ويستهجن لو مرت على مسامعه أثناء تقليبه في محطات الراديو أو التلفزيون!.
في حين اننا، وحتى يومنا هذا، وبالرغم من مرور سنوات طويلة على وفاة عمالقة من أمثال أم كلثوم، عبد الحليم، فريد الأطرش وصباح، على سبيل المثال لا الحصر، ما زلنا نطرب لسماعهم، وما زالت أغانيهم حاضرة تتذكرها الأجيال عاماً بعد آخر، وفي المعاهد الموسيقيَّة تدرس تلك الألحان، ويدرب المغنون على تلك الأغاني الراقية المليئة بالذوق والأحاسيس والمشاعر النقية النظيفة، كلاماً ولحناً وأداءً.
الأغنيات العميقة، العريقة تبقى وتدوم عقوداً متتالية، بينما الأغاني السريعة المفتقرة للحن والكلمة والأداء، والمطبوخة على عجَل، ربما تستمر سنة أو سنتين أو ثلاث سنوات في أحسن الأحوال، لكنها في نهاية المطاف تتلاشى وتندثر وتنتهي وكأنها ما وجدت أصلاً، ولا تبقى إلا في أرشيف مغنيها ربما، بينما تمحى من ذاكرة الشعوب التي تُبقي على تلك الأغنية الممتلئة بقوة النغم، الفائضة كلمات رقيقة تمس شغاف المشاعر والقلوب، تلك التي تراود النفس داعية إياها إلى "السلطنة" والتمايل 
طرباً.
الأغاني السريعة التي تناسلت وتكاثرت، مثلها مثل الوجبات السريعة التي غزت الأسواق بما يشبه جائحة أو أسراباً من الجراد أتت على الأخضر 
واليابس!.. 
هذه الأغاني، وبوصفها وجبة سريعة، يتناولها أحدنا في الشارع "وعالماشي" ليسكت جوعاً ألمّ به، لكنه حالما يصل إلى البيت يهرع إلى المطبخ منادياً أمه "ماذا طبختِ لنا اليوم"، وكأنه لم يأكل طوال اليوم، وتلك هي حال الأغاني التي يستمع إليها المرء في السيارة أو أثناء القيام ببعض الأعمال أو في الحفلات لكنه إذا أراد أنْ يطرب "وهذا حال البعض ولا يمكن تعميمه" يسارع إلى تشغيل أسطوانة لأحد المطربين الكبار، فالصباح لـــ فيروز، والمساء لأم كلثوم أو عبد الحليم أو 
غيرهما.
في نهاية الأمر لن يصح إلا الصحيح كما يقال، والأعرق سيبقى ولو مرّت عليه النوائب، الأغاني العريقة كالآثار والأوابد التي ما زالت باقية كشاهد على عصور سحيقة، وحضارات عريقة وعميقة في الزمن، لم تستطع كل عوامل الطبيعة والتطور أنْ تمحوها أو تزيلها من مكانها. يقول الراحل منصور الرحباني في أحد لقاءاته المتلفزة: علينا ألا نقلق ونحن نقف وجهاً لوجه أمام مستويات متفاوتة في الغناء، هذه ليست ظاهرة مستجدة أو طارئة، إنما هي من عمر ظهور فن الغناء، ولكل أنْ يقدم ما يشاء، وهذا حق مشروع، ولكل أنْ يستمع إلى ما يشاء، وأيضاً هذا حق مشروع، والزمن كفيلٌ بغربلة ما هو غير صالح للاستهلاك
البشري!.