الشاعر عبد الكريم كاصد: الشعر لن يموت لأنه لصيقٌ بالإنسان

منصة 2020/12/20
...

  حاوره: يوسف محسن 
 
«في مرحلة من حياتي الشخصيَّة شكل ديوان (الحقائب) لحظة ملهمة وجاذبة، كان نبوءة مبكرة منذ العام 1975 لما حلَّ بنا كعراقيين، كنا نحمل مأتمنا الجنائزي، و(نشدّ السلاسلَ عبر ألوفٍ من الكيلومترات...
نرتاح في غرفٍ مرّ فيها ألوفٌ من الناس..؟
نبصرُ أوجهَنا في الوجوه..
ونمضي
لنمسحَ عند المساء غباراً تراكمَ فوق الحقائبْ)
إنه الشاعر عبد الكريم كاصد التقته 
«الصباح» للحديث عن المسار التاريخي له، الولادة، التكوين الأول، النتاجات الشعريَّة، التجربة 
الثقافيَّة؟
 
* حدثنا بداية عن المسار التاريخي للشاعر عبد الكريم كاصد؟
- الحديث عن التكوين الأول هو كالحديث عن كتاب تتشابه فصوله وإنْ اختلفتْ، وقد لا تنتهي أبداً. إنه المكان الواحد الذي يتعدد، والشخوص التي تختفي لتعود بوجوهٍ جديدة وربما بهيئة شخوصٍ أخرى. ليس ثمة تكوين أول لأنّ التكوين الأول في تحوّلٍ دائماً كلما استعدته، وقد يتكشف لي عند كل لقاء معي في صورة أخرى: كنا أطفالاً، ولكنْ سرعان ما كبرنا مع كلّ مكان كنا ننتقل إليه مع أسرنا في مواسم التمر، باتجاه الجراديغ (مكابس التمور) بعوالمها الساحرة، وأحداثها، وغرائبها: الأنهار الذاهبة الآيبة بمدها وجزرها وبنا أيضاً، طافين كالقوارب الطافية التي تُشعل قناديلها في الليل فيستحيل النهر نهاراً آسراً، الجسر الذي يرتفع نصفين لتعبر السفن المحملة بصناديق التمر، بأشرعتها الكبيرة العالية، وبحارتها المنشدين (مرة تأخرتُ عن المدرسة بسبب سفينة عابرة اضطرتني إلى الوقوف بانتظار هبوط الجسر فكان عقابي ضربات عديدة بالمسطرة على اليد)، النوتيّون الذين خاضوا كل الأنهار لكنهم لم يروا المدينة، البصرة القريبة، التي يعرفها الطفل، مثلما يعرف أسرته، فيفتح فمه مندهشاً، الهنود القادمون بأسماكهم الصغيرة المجففة شبه عراة، الناس البسطاء واحتفالاتهم الليليَّة، بعد العمل الشاق ورقصهم وسط النيران المشتعلة، المجنون الوقور بسدارته التركية وهو يبصق على ظاهر أكفّنا التي لسعتها الزنابير لتشفى.. العشاق الذين نصطدم بهم وسط الحلفاء وفي قاع الأنهار الجافة، هذه الأماكن فتّحت عيوننا على اتساعها، ولعلَّ المكان الأول الذي نعود إليه لا يقل غرابة وقد تحدثت عنه في العديد من كتبي.
التأثير الأبقى الذي أتذكره هو، ربما، هذه الانتقالة الكبرى التي حدثت إثر ثورة 14 تموز حين تحوّل المكان الأول إلى مهرجان تنتشر فيه الاحتفالات الصغيرة والأكشاك التي تزينها الألعاب والكتب بأغلفتها الجميلة الملونة القادمة من بيروت وموسكو وبكين وعناوينها الثوريَّة، لننتقل بضربة ساحر من مملكة آرسين لوبين، وملتون توب، وجونسون القاتل الشرير الذي فاق الأوّلَين بحبكة جرائمه التي كتمت أنفاسنا. أتذكر أنني قرأت ذات ليلة كتاباً لجورج حنا اللبناني «ضجة في صفوف الفلسفة» عن المادية والمثالية. كانت السماء ترعد وتمطر وأنا، قريباً من النافذة، أقرأ ولا أفهم إلا القليل منه وقد اختلطت الكلمات وقطرات المطر في ذهني، إنْ لم أقل في روحي لينقلني هو والكتب الأخرى إلى عالم آخر.. صراع آخر وجدت شواهده في واقعي نفسه فلم أجد نفسي وأنا الطفل الذي لا تنطبق عليه شروط العضوية، بسبب صغر سنه، إلا وأنا في المعترك السياسيّ المباشر ولا أدري الآن ما الحكمة في توجيه طفل ليستيقظ منذ الفجر ليوزع المناشير في الصبح بين أناسٍ معظمهم أميون يقفون بمللٍ أمام المخبز في طابورٍ طويل.لم تمض إلا سنوات قليلة لأجد نفسي مختفياً ثم هارباً أسابق الأمكنة والبشر: دمشق بيروت، فالبصرة ثانية ثم الهروب من جديد عبر الصحراء لسبعة أيام على جمل بانتظار ما يقلّنا إلى الكويت. لم يكن هناك غير تنكر ماء انحشرنا فيه عشرين هارباً عراقيين وفلسطينيين وسوريين اختنق اثنان منا فوضعناهما على سقف التنكر ليتنفسا. كان ذلك قريباً من الحدود العراقية الكويتية ولكن نجونا باعجوبة وبعد أربع ساعات رُمينا في بقعة بين بيوت مهجورة لم يكتمل بناؤها بعد، ثم تتالت المنافي: اليمن، دمشق، موسكو ليصبح العالم كله منفى هو اليوم «منفى في غرفة ضيقة» في أوسع مدن العالم حرية: لندن. وفي هذه المنافي تعددت اللغات، وتشابه البشر، وتوجست الخطى، ولم يعد للشاعر غير نافذةٍ صغيرةٍ مطلّةٍ على الطريق.
 
* هل وصل عبد الكريم كاصد الى ايثاكا؟ ماذا وجد؟
- لقد غادرنا إيثاكا منذ زمن ولكنّ إيثاكا لم تغادرنا قطّ. وحين غادرناها لم يكن في حسباننا أننا سنلاقي في طريقنا الغيلان والمردة.. ما أكثرهم! في قصيدة لكفافي بعنوان إيثاكا يتحدث فيها عن الغيلان والمردة الذين لن يلتقيهم المسافر في طريقه ما دام فكره سامياً. غير أننا التقينا بهم ولم ينفع فكرنا السامي أبداً. كانوا الأقوى نجدهم أينما التفتنا: في المطارات، في المرافئ، في مخافر الحدود، والصحارى البعيدة، وحين عدنا إلى إيثاكا، ونحن كهول، لم نجدها، وما وجدناه علائم أو إشاراتٍ غامضة لم تكن تشير إلينا ولا إلى أي مكان آخر، حتى استحالت إيثاكا سراباد أخرى .. حلمٌ أم واقع؟ رحيلٌ أم إقامة؟ بشرٌ وأدلاء ضائعون، ولربما اجتزناها منذ زمنٍ، من دون أنْ ندري، لنبحث عنها من جديد، وها نحن في غرفنا الضيقة نحدّق في سراباد المرتحلة البعيدة نحدّق كما نحدّق في السراب: 
سألنا عن سرابادَ البعيدةِ 
قيل من عامين جزناها 
وقيل لعلّها البلدُ الذي يأتي 
وقيل لعلّها جبلٌ
ومحضُ بحيرةٍ مسحورةِ الأسماك 
قيل لعلّها شجرٌ تحجّرَ 
قلعةٌ من صخرةٍ صمّاء 
تسكنُها التماثيلُ الغريبةُ 
قيل 
لكنا نأينا عن سرابادَ البعيدةِ 
 
* كتب عنك الصديق ميثم الجنابي (ليس مصادفة أن يكون اهتمام عبد الكريم كاصد في أغلب ما كتبه من شعر ونثر ونقد يصب في روافد الأنهر العراقية وأنهاره وأهواره، أي في كل ما صنع أخدود الذاكرة العراقيَّة وطبعها بنكهة هي عين الحياة والموت، أي كل ما وجد أنموذجه الأرقى والأكثر مأساوية في بدر شاكر السياب). كيف تقرأ هذا التقييم؟
- ميثم الجنابي واحدٌ من مفكرينا القلائل الذين استطاعوا أنْ يعالجوا أشدّ الموضوعات والشخصيات إشكالاً، محافظين على تلك المسافة التي تنأى بهم عن الوقوع في حبائلها من طائفية أو إيديولوجية أو قصر نظرٍ.
هكذا هي كتاباته عن أبي ذر الغفاري، وسلمان الفارسي، والغزالي، والجاحظ، وطه حسين، وهادي العلوي، وآخرين وأعتبر كتاباته عن طه حسين والجاحظ من بين أنضج الكتابات التي قرأتها عنهما، وهو بهذا يحقق ما يكتبه من نقدٍ بمقاييس الروح في اعتدالها وتساميها وتعاملها مع أصغر الأشياء وأعظمها من الزاوية الإنسانية ذاتها، من دون أنْ يغفل الواقع المتشابك وكيفيَّة الخروج من حبائله إنْ صحّ التعبير. وما كتبه عني هو امتدادٌ أيضاً لفهمه العميق للشعر ودوره كما تجسّد في مقالته القيّمة «الشعر والحرية في الفكر العربي الحديث». 
آمل أن تكون كلماتي هذه عنه هي إجابتي عن سؤالك. وهنا لا بدّ لي من التعبير عن امتناني لكلماته هذه التي تجعلني متيقظاً، بحدّةٍ، دوماً لواقعي الذي يحيط بي وما يتجاوزه أيضاً. إنني أعد ما كتبه عني نصّاً إبداعياً مرهفاً نابضاً بروح مفكّرٍ استطاع أنْ يمزج الحس بالعقل والحدس بمهارةٍ حميمية 
نادرة.
* كيف تفسر الشعرَ؟ هل يرتبط بالمخيالي أم بالواقعي أم بالصهر المتبادل بينهم؟
- لا أدري كيف يكون هناك شاعر حقيقيّ من دون مخيلةٍ تتغذّى بثقافته واطلاعه على تجارب الشعراء والحركات الشعرية المختلفة في العالم، والاغتناء 
قبل كلّ شيءٍ بالواقع والتعرّف على حركته، مثلما لا يمكنني تصور شاعر يتعامل مع الواقع بلا مخيلة تُكسب هذا الواقع غنىً بما تكشفه من 
مستويات أخرى فيه هي أبعد من ظواهره العابرة، حتى في أبسط أشيائه التي تتداخل أحياناً لتبدو هي ذاتها أشدّ غرابة من الخيال. وحين يغتني الواقع بالخيال، والخيال بالواقع تولد القصيدة معافاةً. 
ثمة شعراء يحسبون تداعياتهم المشحونة بالغرائبية شعراً مبدعاً هو في حقيقته ليس سوى لعب يبهر، لكنه ليس بشعر، وكثيراً ما يبهر الشعر الزائف قارئه بضجيجه وتداعياته. الشعر بناءٌ وليس تبعثراً. إن كتابة قصيدة محكمة نادرة جداً، لذلك نقرأ قصائد قليلة وشعراً كثيراً لا قيمة له وكأن الشعر مهاراتٌ فحسب، وليس تجربة لها عمقها وأبعادها لا من خلال تبعثرها، بل من خلال بنائها وجوّها الخاص الذي لا يشبهه جوّ آخر. 
هذا لا يعني أنّ القصيدة لا تكتشف الواقع وتغتني بالمخيلة إلا بما هو مركب من أساليب وموضوعات. لا.. إنها تستطيع أنْ تكشفه في أبسط الموضوعات والمشاهد. 
إنَّ الذهاب إلى القصيدة كالذهاب إلى بقعة ضوء تضيء كلّ ما حولها من ظلام. ولعل أجمل القصائد ما ينبع خيالها من الواقع ذاته، بما يستثيره هذا الواقع من تفاصيل يضيئها الشعر مانحاً القصيدة سماتها الخاصة المختلفة عن سائر القصائد الأخرى. 
مرة في حديث مع صديق لي عن الخيال والواقع قلت له ما ينقصني ليس هو المخيلة، بل الواقع الذي يزداد تشابكاً وغموضاً وسيبقى عصيّاً على الفهم إنْ لم تسعفه المعرفة.. معرفة الشاعر بخفاياه وتناقضاته وتحولاته المفاجئة التي تتبادل فيه الأشياء الأدوار، فيبدو ما هو جوهر عرضاً، وما هو عرضٌ 
جوهراً.. هذا الواقع لن يتكشف للشاعر الذي تعوزه المعرفة حتى وإنْ أسعفته المخيلة أحياناً، لأنَّ الواقع والمخيلة هما أيضاً ليسا بعيدين عن تبادل دوريهما، في هذا المسرح الهائل الذي نسميه حياةً. 
(فضلتُ استخدام مخيلة في إجابتي عن هذا السؤال لأنها ألصق بالشاعر بينما المخيال هو ألصق بالتصورات الجمعية الواعية واللاواعية التي قد تكون، هي بدورها، مادةً لمخيلة الشاعر).
 
* (وقبل موتهِ بلحظتينْ أطلّ في الغرفة، واستدارَ هادئاً يكتمُ في عينيهِ دمعتينْ دعوتهُ أن يستريحْ، ثم نهضتُ خلفهُ لأفتحَ البابَ عثرتُ بالضريح) يعد ديوان (الشاهدة) أنا أسميه ديوان الفجيعة واللحظة المأساوية في الوجود البشري حيث الفقدان هل تحدثنا عن تلك اللحظة التي أنتجت هذا العمل؟
- شكراً لك أخي يوسف على هذا التوصيف. 
أجل إنه الديوان الذي حوى تفاصيل اختفائي في بغداد، وهربي عبر الصحراء، ومرثية أبي وحكاياتي عنه، وإقامتي في موسكو زمناً، وضمَّ فواجع أخرى: قطار الموت الذي حمل السجناء ليهلكوا في الطريق، ومأساة تلّ الزعتر، وفقدانات أخرى. كانت المأساة تتسع وطفل الجراديغ يدير عينيه في مساحات لا تزال تسكنه وتتكشف له بطرائق شتى: بأعراسها، ووحشتها، ودوريات شرطتها، ومسافاتها التي لا تُصدّقُ أنها ستنتهي، الأب الذي أطلّ في غرفتي، قبل موته، دون أن يسألني عن شيء. إنها اللحظة التي حُفرت في ذاكرتي ولن تغادرها أبداً، لتأتي قريبتي الخرساء بعد دقائق معدودة معولةً، معلنةً بلا كلمات موتَ أبي. تراه كان يدرك موته فجاء يفتح باب غرفتي على غير عادته ليودّعني؟ ولأحمله بعد ذلك بين ذراعيّ أدعوه للنهوض؟ هنا أنا لستُ أمام واقع، بل خيال محض.. خيال هو في نسيج الواقع الذي يستحيل في الشعر غرابة وهو ليس سوى ألفة فاجعة للجميع. كانت المسافات تتسع ولا تنتهي بدءاً بالصحراء وانتهاءً بها، في هذا العالم المكتظ بالبشر والأشياء.. العالم الذي تآخى فيه المنفى والوطن في سطوتهما، وليست النجاة فيهما إلا وليدة مصادفة لا تحدث مرتين رغم أنها قد تكون وجهاً آخر لضرورة عمياء.
 
* لماذا ارتبطت الشعرية العراقية بالمناسبات وحفلات الحاكم الفاشي ودراهمه؟ وبمقتله ماتت الشعريَّة العراقيَّة؟
- ليست كلّ الشعرية العراقية. لقد هرب المئات من المثقفين العراقيين كان بينهم عددٌ من خيرة 
الشعراء العراقيين. ضحوا بكل شيء من أجل ناسهم وكلمتهم ونقائهم مقتسمين مع الناس المنفيين خبزهم وجوعهم وعذاباتهم مشيّعين في أكثر من بقعةٍ أعزّ أمواتهم، مخلّفين قبور أحبائهم وراءهم، راضين بالقليل من دون أنْ يتخلوا عن مسؤوليتهم، وهم العاجزون، إزاء من تبقوا من أقاربهم في أحلك الظروف، أما هؤلاء الذين تتحدث عنهم فلا يمثل أكثرهم غير أدبِ سلطةٍ ميت لا يتذكره أحد، وبمقتله، مثلما ذكرتَ، لم تمت أو تتوقف الشعرية العراقية أبداً. من ماتوا هم مطبلوه الذين انطفؤوا ولم يتركوا حتى الرماد خلفهم.