المعلم عباس

الصفحة الاخيرة 2020/12/22
...

حسن العاني 
الامس الذي تنشده بعيد، حتى ما عادت الذاكرة تعرفه او تتعرف عليه، اما المشهد فهو المشهد، خوف الى حد ارتعاش الجسد والبكاء، او فرح دونه فرحة العروس ليلة زفتها الى فارس القلب، كذلك هو الامر، اذ تزهر شوارع العراق بآلاف الصغار في رحلتهم الأولى صوب عالم المدرسة المجهول، اذرع مرعوبة تتمسك بأذرع الأمهات، كأنها تقاد الى مصيرها، وجدائل تتقافز على الظهر كأنها تستعجل الوصول الى الجنة التي راودت احلامها، وما زال العام الدراسي الجديد حافلاً باللقطات الطبيعية التي يؤديها ممثلون بعمر البراعم بأعلى درجات العفوية، فثمة اثواب لم يعاشرها التراب واللعب وعبث الطفولة، وكأنها اثواب العيد في اول صباح له، وثمة حقائب معبأة بزوادة الدراسة والطعام، وغالباً بشيء من الحلوى والفاكهة، وكأنهم في الطريق الى سفر في البحر أو الصحراء !
انت.. نعم انت الذي تخطى السبعين العجاف، ماذا عنك وعن ايامك؟ انا يا سيدي استذكر صوت امي  ولا استذكر غيره: ( ابني.. ولدي شوف، ادخل المدرسة بقدمك اليمنى وليس اليسرى – هل تعرف اليمنى ؟ - نعم اعرفها - وكن تلميذاً شاطراً ومؤدباً - سأفعل-  واهم شيء هو أن تنتبه الى معلمك وتطيع كلامه لأنه بمنزلة والدك، واجب الطاعة والمحبة والاحترام ) 
اذن فهو العام الدراسي 1950 - 1951، والمكان هو مدرسة "الفتوة" في مدينة الكاظمية، وها هو انا الولد الذي وصل الى المدرسة، لاينسى الدخول باليمنى، واذا لم يمسسني الخرف، فان اول معلم احضر درسه كان اسمه عباس، لايشبه ابي من قريب او بعيد، فهو يرتدي بدلة بيضاء ونظارة طبية وربطة عنق، في حين كان والدي يرتدي ملابس شرطي برتبة رئيس عرفاء، ويعتمر سدارة ويتدلى من خاصرته مسدس ( أبو البكرة)، وبينما صفق لي المعلم ودعا التلاميذ أن يصفقوا طويلاً حين اكتشف انني احسن كتابة اسمي لكوني خريج كلية ( الملا فضيلة التي تولت تعليمي القرآن والحروف ولم يسبق لوالدي أن صفق لي او سألني ان كنت اعرف كتابة اسمي !!
أي يوم يستحق التبجيل وهو يومي الأول في المدرسة لولا انني في اثناء ( الفرصة) سقطت ارضا وانا اركض، وتعرض جسمي الى عدة خدوش وجروح، وفي الحال رأيت المعلم عباس يحملني بين يديه الى غرفة المعلمين، ويتولى علاجي، حتى اطمأن الى أن إصابتي خفيفة جداً، وقد انتابني الحزن، لان قميصي الجديد تمزق عند الظهر، ولكن حزني كان اعظم لان بدلة المعلم البيضاء لوثتها دمائي، في تلك اللحظة غلبني شعور لم استطع مغادرته الى اليوم، وهو انني احب المعلم عباس اكثر مما احب والدي، رغم مافي هذا الاعتراف من نذالة!