د.أحمد الزبيدي
إذا كان السحر أحد أشكال الاعتقاد البدائي، فإنه يقوم على إيمان بعلاقة خارقة للطبيعة بين الانسان والعالم المحيط به، ومن ثم فهو طاقة تأثيرية غير منطقية في شيء منطقي، وعليه ما تخلت الديانات عنه بوصفها مركزية تهيمن على الوجود الإنساني، ولكن تتغير وظيفة السحر حسب الأسلوب الديني.. ولا شك في أن القرآن الكريم يتضاد مع السحر بوصفه ممارسة وشعوذة، لا تستند إلى أدلة منطقية وعقلية، ولكن هذا لا يمنع من حضوره الفاعل في الثقافة العربية الإسلامية، فيما يخص المنجز اللغوي الإنساني.
ولو التفتنا إلى الحديث (إن من البيان لسحرا ومن الشعر لحكمة) لوجدنا أن وظيفة السحر انحصرت في (البيان) الذي يمثل مركز الجمال البلاغي والإعجاز القرآني من حيث التأثير والمراوغة اللغوية الساحرة الجاذبة للمتلقي بانبهار تعبيري لغوي ودلالي ومن هذا المنطلق فإن مركزية البيان تتمثل في تشكله للهوية الجمالية اللغوية القرآنية،فالرحمن خلق الإنسان و (علّمه البيان) .. أما الشعر فقد انحصر في الثقافة الإسلامية بوظيفة (الحكمة)، أي أنه يتكلم وفق المعايير الدينية والتعاليم السماوية، إذ (لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحًا خير له من أن يمتلئ شعرًا) ولا غرابة أن نجد بابا من أبواب الحديث (باب ما يكره أن يكون الغالب على الإنسان الشعر حتى يصده عن ذكر الله والعلم والقرآن) ويروى أن عليًا بن أبي طالب نصح الفرزدق، حين نطق الشعر بكرًا، بتعلم القرآن. ولنا أن نتساءل لمَ القرآن؟ لأنه (البيان)؟ وإذا افترضنا أن من مضامين النصيحة البيان القرآني فهذا يعني أن تكون سلطة الخطاب الديني فوق (حرية الشاعر) التعبيرية.
فمركزية السحر جعلت وظيفته شرعية في مركزية البيان كونه الأداة الرئيسة في الخطاب الديني الإسلامي، وانحصرت وظيفة الشعر في (الحكمة) ليكون خاضعًا لسلطة الدين ولا يحق له أن يشارك البيان في الأسلوب التأثيري، ومراوغة الحقيقة بأساليب تمنح الشاعر حرية التعبير، وقد رثا الأصمعي عدم إجازة الدين للشاعر بـ (السحر) وأدرك أثر السلطة العقلية على أساليب الشعراء، فقال واصفا تحولات حسان بن ثابت الشعرية: (الشعر نكد بابه الشر، فإذا دخل في الخير
ضعف).