رعـد فاضل
(1)
باجتياح تقنيات التّواصل الحديثة العالم شاعت المعلوماتيّة وتحطّمت حدود الفوارق كلّها، وانحسرت في الوقت نفسه المعرفيّة، لتطوّق العزلة كلّ ما هو ثقافيّ نوعيّ بعد سيطرة التنميطيّة على فضاء هذا التواصل.
ألم يقل مارك زوكربيرج مخترع الفيس بك نفسُه ((اليوم يتساوى الجاهل والعالِم))؟ ما يعرف بالعالم الافتراضيّ لم يعد اليوم في الحقيقة افتراضيّاً، وإنما أصبح هو العالم الحقيقيّ، العالم الذي ساد فيه التّشاكل وانحسر الاختلاف مُرغَماً. هل فقدت أخيراً نصيحة بن الأحمر الشّهيرة أهميّتها المعرفيّة بشأن أن نقرأ لنحفظ، ثم لننسى ما حفظنا كي نعيد انتاجه لا لننسخه أو لنقلّده، بظهور الانترنيت من جهة كونه ((جهاز تذكّر خارجيّ، جهاز تخزين، فربّما لا يصحّ أن نقول إنّه يتذكّر)) لأنّه لا ينسى، كونه وثيقةً مكتوبة حاضرة دائماً متى ما استُدعيتْ، وثيقةً قابلة أن تركن جانباً لكنّها غير قابلة للنسيان؟ فأن ينخرط الكاتب في العموميّ، ألا يعني أنّه قد فقد خصوصيّةَ أن يظلّ كاتباً حقيقيّاً نوعيّاً من جهة أنّ ما من أدب بلا خصوصيّة البتّة؟ صحيح هذا سؤال أوليّ غير أنّه في الآن نفسِه جوهريّ، لأنّ الكاتب وفقاً لفلوبير((يتوارى خلف عمله الابداعيّ))، وهذا يعني أن يظلّ بعيداً عن أيّما انخراط عموميّ. أليست الكتابة الأدبيّة النّوعية هي ((روح التعقيد والإلتباس)) كما يقول فلوبير أيضاً. ألم يحوّل الانترنيت الكثير من الكتّاب إلى عموميين يكتبون في كلّ شيء وكما اتفق وكلَّ يوم. أليس لابدّ علينا إذاً أن ((نكتب ضدّ ما ترغمنا الوسائط الجديدة أن نكونه))؟. إنّ القول ((بالواقع الخام هو انكار للكثافة التأويليّة، وهو قول بحضور المعنى ونفيٌ للعلامات))، أليس في هذا توكيد على قول نيتشه ((إنّ ما يهمّنا هو معرفة الكيفية التي تسمّى بها الأشياء، لا معرفة ماهيّتها))؟ هذا هو السائد الدارج في الحياة الفيسبوكيّة اليوميّة التي تشرّب بها الواقع الثقافيّ، وأصبح سمتها والسلطةَ التي تكرّس للعابر والعاديّ. إنّه العموميّ الذي أصبح شاسعاً وضاغطاً جدّاً ازاء ثقافة الحقيقيّ الماكث جانباً، إنّه استسهال الكتابة الذي وفّرته سهولة النشر ليتحوّل ((ما كان مظهراً في البداية إلى جوهر، ثم يأخذ بالعمل كماهيّة)) ثقافيّة، يصبح دُرْجة تنفي كلّ ما يقع خارج دائرتها، متسلّحة بفيالق متلقّين بسطاء معرفيّاً وثقافيّاً. وهكذا إذا ما اصطفّ التقييم والمعيار الجماليّان والمعرفيّان لكتّاب ما مع حركات السُّوق الاعلاميّة، كما يحدث هذه الأيّام فذلك لا يمكن أن يعني إلّا انتحار الكتابة من خلال هؤلاء الكتّاب.
(2)
بعد المحمول (الموبايل) لم تعد للحامل خصوصيّة كبيرة تذكر، ذلك أنّه مُلتقَط أينما كان وفي أيّة لحظة كانت، ولا يقول لي أحدٌ: يكفي اغلاقه ويُكفى حاملُه مغبّة كلّ التقاط، لأنّ عملية الإغلاق إذا ما تكرّرت أو طال وقتها ستدفع المتّصل إلى الشكّ بأنّه ليس مرغوباً باتّصاله، ثمّ بماذا سيبرّر المتَّصَلُ به فيما بعد عدمَ الردّ، سوى أنّه قام بإطفائه لأمر ما كالنوم أو القراءة أو الكتابة أو المرض الخ...، وكم من مرّة ستلاقي مثل هذه الحجج والتبريرات القبول عند المتّصلين؟، وأيضاً إنّ فعل الاطفاء نفسَه فاضحٌ لنفسه إذا ما تكرّر من وقت لآخر. وإذا لم أطفئ الجهاز وحوّلته إلى حالة ما يعرف بـالصّامت، ستكون الفضيحة أشدّ وقعاً أمام المتّصِل ذلك أنّه يعني ببساطة: نعم أنا موجود ولكن لا رغبة لي بأن يكلّمني أو يراسلني أحد، يعني بالنسبة إلى المتَّصِل أنّه غير مرغوب فيه. في ما يعنيني شخصيّاً: أنا أحاول استرداد سريّتي، أي حرّيتي الشخصيّة التي فقدتُ أغلبها. كلّ التّبريرات والذرائع أصبحت مكشوفة تماماً، ذلك أنّي سأُواجَه بسؤال أكثر تعقيداً واِحراجاً وافتضاحاً من قبل المتّصِل أو المراسِل: حسناً إن كنتَ نائماً أو مشغولاً الخ... لماذا لم تتصل بي، أو تردّ على رسالتي؟، سيفضحني هذه المرّةَ صندوق بريد محمولي. مع تنشيط الانترنيت في محمولي حتى وجودي في أيّما وقت ومكان أصبح معروفاً إن لم أقل مفتضَحاً، كوني مُلاحَقاً الكترونيّاً إذ إنّي هنا لست سوى نقطة في شاشات محمولات الآخرين. أليس الأكثر دقّة وعدالةً أن لا نقول الهاتف الذّكي وإنّما The most intelligent أي الأكثر ذكاء، لأنّه دائماً ما يُسقِط كلّ دفاعات ذكاءاتنا نحن الذين في الحقيقة لسنا سوى محمولين لا حاملين، نحن المستعبدين من قبل آلة كلّما طوّرناها إنّما نكون نُزِيدها ذكاء من ذكاءاتنا، وفي الوقت نفسه نزداد نحن ضعفاً أمامها ونُستعبد ذهنيّاً أكثر من قِبلها. الأمر هنا بخاصّة في ما يتعلّق بالتّعبير من خلال الصّور لا بالكلمات، كما يقول الفيلسوف فرانسوا ليتوار أحد أبرز منظِّري ما بعد الحداثة ((يتعلّق بهمجيّة جديدة وأُميّة جديدة وتقليل من شأن اللغة، وهي كلّها تشير إلى فقر جديد، بتوجيه قسريّ للرأي من طرف وسائل الإعلام- يقصدُ النّت- نحن أمام ذهن منذورٍ للبؤس وروح بلا عمق، لم يعد للكلمات أيُّ شأنٍ، إنّ العالم يُكتَب بالصّور، إننا ننتقل شيئاً فشيئاً من التّمركز البشريّ إلى التمركز التّقني)).
(3)
اليوم وبعد تسلّط الإعلام على العالم وحلوله محلّ المعرفة سادت الثقافة اليوميّة الخفيفة، ثقافة الاستهلاك السّطحية وألغيت الحدود ما بين التميّز والذّيليّة، لتسود كما يقول ميلان كونديرا ((رؤية تنعكس من خلال السُّلَّم الذي تنتظم المواد المنشورة فيها بموجبه، في الأبواب ذاتها، في الصّيغ الصحفيّة عـينها، وجميعها في نـفْس مراتبيّةِ ما تجدُه هامّاً أو ما تجده عديم الأهمّية. هذه الروح المشتركة هي روح عصرنا!))، وبهذا تكون المشاكلة هي الأبرز بعد هزيمة الاختلاف أمامها- أمام ((هذه الروح المشترَكة)) بل الموحَّدة المعولَمَة. هذه هي ثقافة النّمط أو تنميط الثقافة بالعموميّة.