على الرغمِ من مرور أكثرِ من نصفِ قرنٍ على رحيلِ (بدر شاكر السياب) فإنَّ حياتَهُ وشعرَهُ ما زالا الشَّغلَ الشَّاغلَ لكثيرٍ من الباحثين والمعاصرين ممن ما زالوا على قيدِ الحياةِ، وكأن جذوة قصيدته لم تزل مستعرةً، على الرغم من وجودِ عشرات الشعراء المجددين ممن ظهروا في زمنه أو بعده، وشكَّلَ هذا الاهتمامُ المتصاعدُ خطاباً نقديّا عريضاً جمعتُ شتاته في كتابٍ أكاديميٍّ (الخطاب النقدي حول السيّاب) سنة 2005م.
وكنت أظنُّ أنّني أغلقتُ البابَ في وجهِ من يأتي بعدي للكتابة عنه ثانيةً، معتقداً أنَّ ما كتبه عبدُ الجبار البصري، وإحسان عباس، وعيسى بلاطة، ومالك المطلبي، وصلاح فضل، وبشرى موسى صالح، وحسن ناظم، وغيرهم قد أحاط بشعره من كلِّ جوانبِه ولم يبق للآتي بعدهم شيئاً، ولكن لم تصمد تلك القناعة لدي طويلًا بعد اطلاعي على دراساتٍ كثيرةٍ تناولت السيابَ بعد هذا الحقبة، فما كان مني الَّا ان أفكرَ ثانيةً بالعودة إلى المتن النقدي الذي تناول شعرَهُ لأقف على مناهج جديدةٍ لم اقف عليها في دراستي السابقة، مثل: المكان وتشكيلاته في شعر السياب، للباحثة سوسن رجب حسن، والسرد في مطولات السياب لمحمد ربيع الغامدي، وبعض الدراسات الأكاديمية التي تناولت شعر الرواد بشكل عام ومنها: (المرجعيات الثقافيّة لقصيدة الرواد العموديّة) للباحثة أنغام ناصر، و(التمثلات الفنية للرفض والقبول عند الشعراء الرواد)، للباحث أحمد عبد الرضا كاظم، وغيرهما من الرسائل والأطاريح التي كثيرا ما تعود لتجربة السياب كلما وجدت إلى ذلك
سبيلاً.
وبعد، كلما عدت إلى شعر السياب، سبقني سؤال مفاده، لماذا بقي ديوان السياب بطبعة دار العودة وبعض الطبعات التجارية هي المتوافر بين يدي القراء والباحثين، من دون أن يقوم أحد الدارسين والأساتذة المتخصصين بتحقيقه، واعادة النظر في الديوان كلِّه، لما يحمل من هنات كثيرة: لغوية، واملائية، أو ما فيه من سقط، لم يستطع مقدم الديوان تلافيه، ويبدو أن هذا السؤال لن يتكرر هذه المرة بعد أن شمَّرَ الشاعر الشاب (علي محمود خضير) عن ساعده في تحقيق هذا الديوان تحقيقاً علمياً، حاول فيه العودة إلى مسودات السياب نفسها ولسد الثغرات الحاصلة فيه، وبمقدمة للشاعر أدونيس أعاد فيها الحديث عن السياب وشاعريته التي توجته رائداً من رواد الشعر العربي الحديث لم يستطع أحد من مجايليه أو من جاء بعده أن يقدمَ ما قدمه السياب من خدمةٍ جليلةٍ للشعريّةِ
العربيّةِ.
لقد تعرض شعر السياب على الرغم من الاحتفاء به كثيراً إلى كثير من الظلم والاجحاف، حين تتابعت بعض دور النشر التجارية إلى نشر شعره، ولم تلتزم بترتيب نشر قصائده وطبعاتها مما أحدث شيئا من الفوضى بين قرائه والباحثين في شعره.
ولكن اطلاعي الاولي على طبعة دار الرافدين الجديدة تؤكد تجاوزها تلك الفوضى، وهي طبعة ستأخذ مكانها الحقيقي بين الباحثين الجدد الذين لما يزل شعر السياب يستهويهم بفضل ما يتميز به من لغة مغايرة وأسلوبية جديدة في كتابة القصيدة العربية، كثيراً ما بقي الشعراء المعاصرون رهناً لسحره، ولو تتبعنا هذا الأثر في شعره لاحتجنا إلى أطروحة جديدة على غرار ما كتبه (سعيد سالم الجريري) الذي أبدع في كتابة أطروحته للدكتوراه في كلية الآداب الجامعة المستنصرية بإشراف د.عناد الكبيسي (أثر السياب في الشعر العربي الحديث) أوائل الألفية
الجديدة.
فقد بقي أثر السياب واضحا في الشعر العربي في مختلف مدارسه وأجياله، بفضل ما تستبطن قصيدته من سحر خاص، ولغة شعرية، وطريقة متنامية في بنائها، ومضامين بكر لم يعهدها الشعر العربي من
قبل.