علي شريعتي وعلي الوردي

ثقافة 2020/12/23
...

د. عبدالجبار الرفاعي
 
المثقف النقدي غير المثقف الأيديولوجي. علي شريعتي مثقف أيديولوجي، أما علي الوردي فمثقف نقدي. يبدو للوهلة الأولى أن شريعتي والوردي متشابهان في المنهج والتفكير والرؤية للعالم والمواقف، لكن ما يسود أعمال الوردي عقلانية نقدية لا تخلو من انطباعات ذاتية، ما يسود أعمال شريعتي التبشيرُ بأيديولوجيا الثورة، وتوظيف تراث الإسلام والنصوص الدينية في التحريض على النضال والتضحية، عبر استلهام مواقف الشخصيات الثورية في الماضي والحاضر، في سياق انطباعات ذاتية. وإن كانت أعمال علي شريعتي لا تفتقر للنقد العقلاني، والتفسير والتحليل العلمي. 
عندما نقرأ آثارَ كلٍّ منهما، ونتعرف على مواقفه، نرى الاختلافَ بينهما واضحًا. لم يكن علي الوردي داعية، بل كان باحثًا يحاول أن يتحرى الحقيقةَ في آثاره، ويسعى لأن يكتشف شخصيةَ الفرد والمجتمع العراقي، في ضوء ما توصله إليه مناهجُ البحث الاجتماعي، وفهمُه وانطباعاتُه الخاصة. 
  لم ينخرط الوردي في جماعةٍ سياسية، ولم يكن في يومٍ ما منظرًا أيديولوجيًا أو مبشرًا، أو خطيبًا حماسيًا، ونادرًا ما كان يحاضر في الجامعات والمنتديات والحسينيات، أو يشارك في ندوات ومؤتمرات، أو مقابلات ومقالات في الصحف والمجلات داخل العراق وخارجه. السبب في ذلك لم يكن مزاجُ الوردي وطبيعةُ شخصيته فقط، بل موقفُ النظام من تفكيره العقلاني الحرّ، ونقدُه الشجاع الذي لا يطيقة كلُّ نظام شمولي. لم يكن علي الوردي داعيةً لأيّةِ ثورةٍ جماهيرية، بالمعنى النضالي المتداول في أدبياتِ اليسار الأممي، واليسار القومي، وأدبياتِ الجماعات الأصولية، بخلاف علي شريعتي الذي كان أحدَ أبرز دعاة الثورة الدّينية في القرن العشرين في عالَم الإسلام، إلى الحدِّ الذي كانت فيه محاضراتُه وخطبُه وآثارُه المكتوبة أحد منابع إلهام الثورة الإسلامية في ايران من خارج الحوزة، وذلك ما دعا أتباعَه لخلع لقب «منظّر أيديولوجيا الثورة» عليه.كلُّ من يحاول التعرّفَ على هذه الثورة وما واكبها من مخاضاتٍ يرى بوضوحٍ أثرَ علي شريعتي في التمهيد لها، ودورَ خطاباته وكتاباته في تعبئةِ الشعب، وحضورِ الجماهير الاحتجاجي الواسع ضدَّ نظام الشاه.كانت جهودُ شريعتي شديدةُ الفاعلية والتأثير بوصفه منظرًا أيديولوجيًا، وأستاذًا جامعيًا، وداعيةً، وخطيبًا حماسيًا، تكتظ «حسينيةُ إرشاد» والشوارعُ المحيطة بها لحظة يعتلي المنبر. 
  يشدّد شريعتي على التضحية بالنفس من أجل العقيدة، ويقدّم تفسيرًا للشهادة بوصفهًا هدفًا لا وسيلةً، بقوله: «‏الشهادة في قاموسنا درجة، فهي ليست وسيلة إنما هي هدف، إنها أصالة وتكامل وسمو، إنها مسؤولية كبرى وصعود من أقصر الطرق إلى معارج الإنسانية، إنها منهج. ‏في جميع العصور إذا ما هددت عقيدة بالانهيار فإن أنصارها يدافعون عنها بالجهاد ويضمنون استمرارهم واستمرارها بقوة الدفاع والنضال، وإذا ما عجزوا عن النضال، ولم يمتلكوا ‏وسائل الدفاع وضعفت لديهم الإمكانات، فإنهم سيحافظون على إيمانهم وعزتهم ومستقبل تاريخهم بالشهادة. ‏الشهادة دعوة لكل الاجيال في كل العصور: ‏إذا استطعت انتزع الحياة، وإلا فقدمها». 
أما علي الوردي فلم يتخذ من الحسينيات منبرًا، ولم يخطب فيها مثلما كان يفعلُ شريعتي. لم يكن الدّين حاضرًا في أعمال الوردي بكثافة حضوره في أعمال شريعتي، ولم يتخذ من الدين الركيزةَ الأساس في كتاباته، يتحدث الوردي عن الدّين بوصفه ظاهرةً مجتمعية تتأثر بكل أحوال المجتمع وظروفه. 
الدّينُ وتمثلاتُه أمس واليوم في حياة المجتمعات، والمجتمع الإيراني بالذات، هو المحورُ الذي تلتقي فيه محاضراتُ شريعتي وكتاباتُه،كلُّ شيء في أعماله ينتهي بالدّين أو يبدأ منه، الدّينُ والشأنُ الدّيني هو البصمة الموشاة فيها آثارُه. هذه ميزةٌ لا ينفرد فيها علي شريعتي، بل نراها ماثلةً في محاضرات وكتابات أكثر المفكرين والشعراء والأدباء وحتى الفنانيين الإيرانيين، أكثرُ الشعر الفارسي يتعطر بنكهة العشق الإلهي، الموسيقى الإيرانية سحرُها في ألحانها العرفانية، الفكرُ الإيراني أحد منابع إلهامه الشعرُ الفارسي، منه يستقي مادتَه ولغتَه وأمثلتَه وأحيانًا محاججاته، كثيرًا ما ترتسمُ صورُ هذا الشعر بأحاديث الروح، وتكتبه لغةُ القلب، ويحضر فيه صوتُ هوية قومية ليست مكشوفةً عند حافظ الشيرازي وأمثاله، وميثيولوجيا هوية إيرانية اصطفائية مكشوفة في «شاهنامة» الفردوسي وأمثاله. 
كان علي شريعتي مثقّفًا رسوليًّا، كرّس جهودَه لترحيل الدّين من الأنطولوجيا إلى الأيديولوجيا، وحاول أن يعمل على تحويل الدّينِ من ثقافةٍ إلى أيديولوجيا. أدرك شريعتي أن تفسيرَه الثوري للدين يتطلّب قراءةً أيديولوجية، الدّين كما يرى هو يفتقر إلى مثلِ هذه القراءة، فعكف على إنجازها في أعماله،كما يقول: «سألني أحد رفاق الدرب: ما هو برأيك أهمّ حدثٍ وأسمى إنجازٍ استطعنا تحقيقه خلال السنوات الماضية؟ فأجبته: بكلمةٍ واحدةٍ، هو تحويل الإسلام من ثقافةٍ إلى أيديولوجيا». حرص شريعتي في كلِّ كتاباته ومحاضراته على بناءِ فهمٍ ثوري للدين، وقراءةٍ نضاليةٍ لنصوصه، لذلك طبعت الأيديولوجيا بصمتَها في آثاره. 
الأيديولوجي كالواعظ لا يتيح لك أن تتساءل وتتأمل ما يقول، يقدّم لك قناعاتٍ جاهزةً وأقوالًا خارج سقف النقد والمناقشة. يغالي شريعتي بوظيفة الأيديولوجيا، لترتقي لديه إلى مرتبة تصير فيها وصفةً تعالج تشوّهات وأمراض المجتمع، وتمنحه مجموعةَ أحلامه صفقةً واحدة، فهو لا يني يشدّد على أخلاقيةِ الأيديولوجيا، وابتكارِها لقيمٍ جديدةٍ، وأثرِها السحري في المحو والإثبات، وصياغةِ مجتمعٍ مثاليٍّ. 
  لم يتنبه شريعتي إلى أنّ تفشّي الأيديولوجيات اليسارية والقومية والأصولية في مجتمعاتنا، أنتج عقلًا مغلقًا متحجّرًا، يفسّر كلّ شيءٍ بشيءٍ واحدٍ، ويبثّ وعودًا وأحلامًا رومانسيةً خلاصيةً، منقطعةَ الصلة بالواقع، ينتج ذلك العقلُ مفاهيمَ وشعارتٍ، بمرور الأيام تصبح معتقدات راسخة مسيّجة بأسوارٍ مقفلةٍ، وكأنّها سجونٌ يولد ويترعرع في داخلها أتباعٌ لا يطيقون العيشَ خارجَ أسوارها، تمسي الأيديولوجيا مادّةً لأذهانهم ومشاعرهم، ويمسون هم مادّةً لها. 
الأيديولوجيا نسقٌ مغلقٌ، يغذّي الوعي بمعتقداتٍ ومفاهيم ومقولاتٍ جزميةٍ نهائيةٍ، تعلن الحربَ على أيّة فكرةٍ لا تشبهها، تنتهي إلى إنتاج نسخٍ متشابهةٍ من البشر، وتجييش الجمهور على رأيٍ واحدٍ، وموقفٍ واحدٍ. يتبنّى الأيديولوجي نموذجًا تفسيريًّا مسطّحًا أُحاديًّا، يمنحه شعورًا مزوّرًا بأنّه قادرٌ على الفهم الدقيق والتحليل العميق لكلّ شيءٍ، وأنّ أفكارَه مبتكرةٌ فريدةٌ، ويوحي له ذلك التفسيرُ بنزعةٍ رسوليةٍ خلاصيةٍ، وشخصيةٍ نبويّةٍ إنقاذيةٍ. ويلبث غارقًا لا يستفيق من عبوديّته للأيديولوجيا، حتّى كأنّ سعادته في عبوديته هذه.
  لا أعني بالأيديولوجيا حيثما وردت «علم الأفكار»، أي دراسة الأفكار دراسة علمية، وهو المعنى الذي وضعَ له المصطلحَ بعد الثورة الفرنسية أنطوان دستيت دو تراسي. أعني بالأيديولوجيا: الفهم غير العلمي للواقع، الذي تفرضه معتقدات مغلقة. وهذا الفهم متداول في كتابات كثيرة.
 نقد استعمال شريعتي الدّين كأيديولوجيا، لا يعني التنكرَ لكفاحه وتضحيته، الذي يفرض عليّ وعلى كلّ مَنْ يقرأ أعمالَه، ويكتشف سيرتَه ومواقفَه، احترامَه وتبجيلَه وتخليدَه، والاحتفاءَ بشجاعته وشهامته وصدقه. عندما قرأت سيرة شريعتي الفارسية لحظة صدورها بجزأين قبل سنوات، كتبتها رفيقةُ دربه بوران شريعت رضوي زوجتُه، كنتُ أتمثل مواقفَ هذا المثقف الشهم الغيور على الإنسان، تألمت جدًا لما تعرض له من اضطهاد ومطاردة وتشريد، ما اضطره للهجرة متخفيًا للمنفى سنة 1977، ووفاته المفجعة بعد وصوله لندن بمدة قليلة وهو بعمر 44 عامًا. 
على الرغم من أن عقلَ علي شريعتي وقع أسيرًا للأيديولوجيا، غير أن قلبَه لبث قلبَ عاشق، وكأن شخصيته تلتقي فيها الأضداد. ظل شريعتي منحازًا للضحايا كلَّ حياته، يشدو آلامَ المحرومين، يصرخ بمظلومية المعذبين، يبكي جراحَ أرواحهم النازفة، لم يرهبه السجنُ الانفرادي في زنزانة كئيبة.