المئويون!

الصفحة الاخيرة 2020/12/28
...

جواد علي كسار
هُم ثلّة من الناس تعيش ما بعد التسعين إلى المئة، لها وجودها في عالم المعرفة والسياسة والاجتماع، من الذوات المعرفية المعاصرة التي ناهزت المئة سنة، وبقيت مع ذلك محافظة على قوّتها العقلية، بل واصلت عطاءها الفكري والمعرفي برنارد لويس وبتراند راسل وروجيه غارودي ومهدي الخرسان وحسين نصر، وقد نستطيع أن نضيف إليهم بشيء من التجوّز مراد هوفمان وباقر شريف القرشي وزكي نجيب محمود. أكثر ما يُذهلني في ظاهرة المئويين المعرفيين؛ هذه القدرة المتميزة على مواصلة النشاط المعرفي، بلمسة من الصفاء العقلي لا يُلابسها شيء من التخليط والوهم والتخريف، وبقية مواصفات أرذل العمر!
من معالم اليقظة العقلية عند واحدٍ من هؤلاء المئويين، المفكر الأميركي نعوم تشومسكي؛ هي هذه القدرات الخلاقة في أن يكون حاضراً معرفياً حتى لحظة كتابة هذه الكلمات، فبالإضافة إلى ارتباط اسمه بواحدة من أبرز النظريات اللسانية، يندر أن يتخلّف تشومسكي عن كبرى قضايا العالم والبارز من ملفات الإنسانية، تشهد على ذلك كتبه وبحوثه ومؤلفاته المتنوعة، التي تكاد تنوء عن الإحصاء.
الأجمل من ذلك كله هو حفاظه على تقاليده الخاصة وأعراف تواصله مع الناس، نعوم تشومسكي كما عايشه وكتب عن حياته الفكرية ديفيد بارسميان، في كتابه: «تواريخ الانشقاق» يجلس في بيته بجد، ومن حوله كمية ضخمة من الصحف والمجلات الأسبوعية والشهرية، تُتابع العمل عليها فرزاً وتصنيفاً، زوجته في زاوية أخرى من غرفة المكتبة، يستقبل المراسلات المعرفية، وقد ذكر مرّة أنه يقضي عشرين ساعة في الأسبوع يجيب على الرسائل؛ بالإضافة إلى المحادثات الهاتفية، واستقبال الزائرين في مكتبه، ايماناً منه بأن أوّل واجبات المفكر، هو معرفة ما يجري، وهذه مهمّة صعبة.
لم يترك لقاءات الاذاعة والتلفزيون، تُعينه في كبره ذاكرة يُغبط عليها، وموسوعية واضحة وضرب من السكينة والوقار يلحظها من يُتابع أحاديثه ولقاءاته، هذا بالرغم من صلابته الفكرية وعناده المعرفي وإصراره على آرائه، وعدم التخلي عنها ببساطة، حتى وُصف بأنه معارض فكري مزعج وقاسٍ، لا يستسلم أبداً. اللحظة الأميركية الحاضرة، في فشل ترامب انتخابياً وانتعاش الترامبية، أعادت الاعتبار لكثير من آرائه عن أميركا على مدار عقود مضت، وحوّلته إلى مرجعية فذّة، وهي تعيد أفكاره عن أن تأريخ أميركا هو حروب إبادة، وأنها الدولة التي مارست عملاً مبرمجاً لاتلاف الذاكرة، ونظريته عن الفاشية الاجتماعية، وان التعليم في بلده هو تلقين مبرمج، والأهمّ من ذلك ملاحظته عن انفصال المجتمع الأميركي عن السياسة، ومن ثمّ صارت أميركا مجتمعاً غير مسيّس يسهل التلاعب به، وأبرز مظلة للتلاعب برأيه هي الايديولوجيا، وأكبر جهاز للتلقين هو الإعلام الأميركي نفسه!.