التنمر الالكتروني ومحنة المجتمع المعاصر

آراء 2020/12/30
...

   د.سلامة الصالحي
تعد ثورة الاتصالات من أهم التحولات الكبرى في تاريخ البشرية، وهي معجزة العصر التي حولت المجتمع البشري المترامي الوجود الى قرية صغيرة تعرف الشعوب والمجتمعات أخبار بعضها وأحوالهم، ويسرت هذه الثورة العظيمة للانسان سبلا كثيرة للمعرفة والعلم والتطور واختصار الزمن والمسافة ولكن مع كل نعمة تقبل على الانسان هناك نقمة ترافقها، تماما مثل حبل الموت الذي يرافق حبل الحياة، وكأي ثروة يساء استخدامها، او سلاح يساء استخدامه، 
 خضع هذا المنجز العظيم للبشرية الى سوء استخدام وتفريط في قيمة الانسان وكرامته، وهو الذي قطع شوطا طويلا في الابتكار وتطوير المسيرة البشرية، غالبا ما يصبح الضحية الاولى لهذا التطور والتقدم في المسيرة، تجعله خطوة للتراجع بدلا من السير القويم والحكيم، ولأن الوعي البشري يعد قاصرا لدى البعض، والتربية الاسرية قد تكون قاصرة ايضا وقد يتدخل بها تربية المجتمع، الذي يحيط الفرد كذلك، وانعكاساته على سلوكه وتجربته وخبرته في الحياة وقد يكون تخلف المجتمعات، وسوء التعليم وقصور الاسر عن متابعة أفرادها، هو السبب وراء الاستخدام الجائر وغير الصحيح للثورة الالكترونية، التي أخذت بيد كثير من المجتمعات الى آفاق واسعة وسبل تمدن وارتقاء مهمة، هذا الاستخدام الرديء لهذه الثروة العظيمة تصنعه المجتمعات العصابية والمتخلفة وتكون ضحيتها أيضا، لذلك لا بدَّ من التنبيه، ووقفة لمصارحة البعض ممن يستخدم هذا المجال في التنمر واستعداء الآخرين والاساءة اليهم. 
تتضح ظاهرة التنمر الالكتروني كإحدى المحن التي تعاني منها حتى المجتمعات المتقدمة والرصينة والتي لم تواجه محنة الخراب الاجتماعي وانعكسات الحروب والضياع، وبدلا من أن تكون وسائل التواصل الاجتماعي، التي يسرت للانسان الكثير من معضلات الحياة، وسيلة مقدسة وتحاطها القيم والسلوك الايجابي وبدلا من أن تكون لتنمية المجتمع وارتقائه، فقد تحولت في بعض حالاتها الى وسيلة قاسية في شرخ المجتمعات، واشاعة الكراهية والأحقاد وتصفية الحسابات الشخصية، وبدلا من أن تكون سلاح قوة لتماسك المجتمع وقوته أصبحت وسيلة للتحريض ونشر السلبية والبذاءة، التي يأنف منها الضمير الحي والوجدان الشريف، هذه العشوائية والفوضى في الاستخدام وبعد شيوع وسهولة الحصول على الهواتف الذكية، تحولت حياة الناس الى أرض مشاعة، كل يحط ركابه بها ويفعل ما يشاء، وقد تكون هناك بعض الضوابط الآنية والشروط، لكنها لا تلبث أن تعود على وجوه الناس برشق سلبي آخر وصارت الوسيلة القذرة في الاساءة والتندر على كثير من الغافلين والأبرياء، وهذا يعكس محنة الانسان المعاصر في التعامل مع وسائل الحضارة والتقدم، ان كان أساسه من الهشاشة الأخلاقية ما يجعل هذه الوسائل وبالا ووباء يقع على رأس المجتمع ويشيع الكثير من الكآبة والالم والمعاناة. نعم أنها بهذه القسوة وأكثر احيانا، لأن لا خصوصية ولا ذاتية في الامر، فما تقوله ويعنيك ذاتيا يكون قد تحول الى موضوعي وموجه للآخرين، أن لم يوضع له من القوانين ما يحمي الآخر من الاستخدام السيئ واللا انساني واللا أخلاقي في كثير من الأحيان، فهذه القرية، تتوارد الأخبار في ما بينها وتتوارد البذاءة والاساءة والشتائم، التي أدمنها البعض وصارت من مظاهر حياته وسلوكياته الشائنة، التي تبدو غريبة ومستهجنة في مجتمع تربى على القيم الثمينة وأسس الترابط والتراحم، لذلك لزاما على السلطة التي تمنح هذا الهامش من الحرية أن تراقب ما يحصل وأن تحافظ على بنية المجتمع من التصدع الالكتروني، الذي صار أشبه بفيروس شديد الانتشار والضراوة، وأن توضع له الضوابط الأخلاقية والدراسات، التي تجعل من ايجابيات استخدامه تطغى على سلبياته، وتحد منها وأن يحاسب قضائيا كل من يختبئ تحت اسم مستعار أو صفحة وهمية، وقد جعل من لوحه الالكتروني مجالا لتشويه سمعة الناس وخدش كرامتهم وحيائهم، لان هذا التنمر لا يعني شخصا بذاته انما يمتد لأسرته واقربائه واصدقائه ويسيء وبطريقة مؤلمة وقاسية الى وجودهم ووضعهم الاجتماعي، فقد يمس أشد خصوصياتهم اعتزازا وقدسية، وهنا لا تدخل الحرية الشخصية كقيمة معنوية مصانة ومحترمة، إن كانت وسيلة قذرة للاساءة الى الآخر وانتهاكا لكرامته وخصوصيته وسمعته، التي قد تكون من أهم ما يعني الفرد
 ويهمه. 
بعد الانفتاح الالكتروني ودخول الهاتف النقال البدائي الى مجتمعنا، بدأت اولى مراحل هذا التنمر عبر رسائل الاساءة او التهديد والتي أسهمت شركات الاتصالات بكشف أصحابها واحالتهم على القضاء، الذي اتخذ أشد الاجراءات وأوقف الى حد كبير هذا الاستخدام المريب والمقلق لهذه الوسيلة، وبعد وصول الهواتف الذكية وسهولة استخدامها لدى الكثيرين من الجهلة والمتعلمين أيضا، تم استخدامه بالسلب والايجاب وكوسيلة للتندر والسخرية والحط من كرامة وسمعة الآخرين، أي ما يطلق عليه بالتنمر الالكتروني، التي لم تعد ممارسته من قبل فرد بل من قبل مجاميع وصفحات جماعية، رجالا ونساء، تتم فيها الاطاحة بكثير من الناس على مستوى شخصيات عامة أو هامشية، مما يدخل المجتمع والفرد بمحنة كبيرة، لا يستطيع مواجهتها وهو الاعزل الا بهجوم مقابل، وتصبح المعركة عبر الاثير، وتكون ضحيتها الوقت المهدور والنفسيات المدمرة، التي صبوا عليها مركبات نقصهم و أمراضهم الذهانية وتشفي ذلك الجزء السيئ بالانسان، ليتغول ويظهر بأبشع صوره، وهنا يقف المجتمع والاسرة، مدانا ومدينا أمام هذا القبح الذي صار سيلا من الرشقات، التي تعثر مسيرة ارتقائه وتطوره الايجابي، وبدلا من أن ينشر الغسيل القذر، لا بدَّ من التوعية على نشر القيم الجمالية والاخلاقية والتماسك الاجتماعي والاشارة وبقوة الى الايجابية في النشر والسلوك والاستجابة ايضا، للجمال ونبذ القبح والاحقاد والتحاسد والبؤس، ولا انكر أن وسائل التواصل كانت نعمة كبيرة في كثير من الامور بنشر سلوك التراحم والمحبة والصرخة بوجه الظلم والضغينة، بدلا من الترويج للثأر والحقد والانتقام والتي راح ضحيتها كثير من الابرياء والمساكين، ولا يزال الحبل على الجرار في جر المجتمع الى سلوكيات مرفوضة ومقززة، أما من ساعد على تفشي هذه الظاهرة هو اختباء الشخص خلف اسم وهمي وصور وهمية ساعدته في بث قيئه المريض لتدمير الآخر، الذي قد يكون على خلاف شخصي معه او بدوافع مرضية، كالغيرة والحسد والحقد، هذا الشيوع السلبي للغة وقاموس المفردات الشوارعية والذي انتقل وبقوة الى مواقع التواصل الاجتماعي، انما يعكس صورة المجتمع الايجابية المفرحة او السلبية، التي تردت وتراجعت، لتكون صورة غير حضارية وغير مشرفة، وبالنتيجة فإنها انعكاس للطبيعة البشرية التي جبل عليها ذلك المجتمع من البشر سواء كانت سلبية او ايجابية، وتنم عن تربيته وقيمه، اذاً لا بدّ من حد ومحاسبة لهذه الظواهر التي يجب بترها واستئصالها، لأنها قد تؤدي الى الموات الاخلاقي الذي تحرص المجتمعات الحية والرصينة على قوته وحيويته، لأن ديمومة السلبيات تجعل أمر حدوثها ووجودها طبيعيا ولايهم بشيء وتصبح كوارث انعكاساته على المجتمع حملا ثقيلا وخسارات كبيرة لا تعوض، من مظاهر الانتحار والتصفيات الجسدية والنتائج السلبية من انهيار نفسي يطول البعض، من لا يستطيع المواجهة والصمود والقوة أمام هجمات التنمر الالكتروني، لذا يجب التعامل بحزم وجدية من قبل القضاء والامن الالكتروني وعدم ترك الحبال سائبة بيد من يشاء، لجلد الناس والاساءة اليهم.