رعـد فاضل
هل هنالك عزلة بين الشعر والقرّاء، حتى ذلك الذي يوصف بأنه عضويّ (غالباً ما يستخدم هذا المفهوم خطأ على أنّه يعني كل ما هو ثقافيّ شعبوي) يعاني انحساراً عنه، والأخطر من ذلك أن هذه العزلة صارت تفرض نوعاً من سياسة التخلي؟ ولكن متى كان الشعر شعبوياً أو جماهيرياً بهذا المفهوم العام؟ أليست الكتابات الشعريّة التي توصف بالشعبوية والرواج، تلك المعنيّة بالثقافة الجماهيرية سوى نوع من اضفاء المتعة الحسيّة، متعة الانفعال والمداعبة والحماسة...
وما إن توفّرت وسائل متعةٍ جديدة أُخرُ بصريّة وسمعيّةٌ، حتى بدا العزوف والتخلّي الجماهيريّان هذان عن مثل هذا الكتابات جليّاً؟ إنّ ((من المعاني التي ليست معروفة عند الجمهور ما يُستحسن اِيرادُه في الشّعر)) (1)، إذ إنّه ((الأَبِيّ الصّعبُ)) حتّى ((أنّك لتتعِبُ في الشّيء نفسَك وتكدّ فيه فكرَك، وتجهد فيه جهدَك، وتنظر فيه دهراً طويلاً وتفسّره، ولا ترى لأنّ فيه شيئاً لم تعلمه، ثمّ يبدو فيه أمر خفيّ لم تكن قد علمته)) (2)، كونه ((كالبحر أهون ما يكون على الجاهل، أهول ما يكون على العالِم))(3)؟. لماذا يطلب من الشّعر إذاً أن يكون جزءاً عضويّاً من كلّ ما هو اجتماعيّ وسياسيّ وثقافيّ.. بالمعنى السّائد، كما السّينما والتلفزيون والجريدة اليوميّة، ثمّ السّتلايت والـنّتّ وسائر الوسائل الاعلاميّة؟ الشّعر لا يمكنه أن يكون عضويّاً بالقدر الذي لا يمكن فيه لكلّ اجتماعيّ وسياسيّ وثقافيّ واعلاميّ أن يكون شعريّاً، ذلك أنّ هنالك ((سيّداً يسكن الشّاعر، ونزعةً ملكيّة تعصمُه)) كما عبّر ملارميه.
أوّليّاً كلّ أدب ليكون مبدعاً لابدّ أن يكون متحوّلاً، متجاوزاً، وذلك ما يخلخل علاقته مع كلّ تعوّد لقارئه ويشعره بفوقيّة هذا الأدب بسببٍ من تلك الخلخلة، ﻷنّ ثقافتنا المجتمعيّة العربيّة ليست ثابتة حسب وإنّما في تراجع ونكوص دائمين، وذلك ما يجعلها في انفصال متواصل عن كلّ متحرّك وغير مألوف.
أمّا ذلك النّمط الشعريّ المرتبط بطلب السّوق الإعلاميّة والسياسيّة وتقلّباتها فلا يقع في دائرة هذا الاِنهماك إلّا من جهة طبيعة الطريقة أو الأسلوب الإنشائيّ الذي تستخدم به اللغةُ مجازيّاً، وما هذه الطّبيعة سوى قشرة شعريّة لا يمكنها الصّمود أمام أيّ تقليب نظرٍ نقديّ حقيقيّ. الشـّعر الذي لايزال يدرج هو ذلك النّمط المرسَّخ شكلاً وخطاباً من قِبل الثقافة السياسيّة والأيديولوجيّة التقليديّة، عبر منهجة مدرسيّة وأكاديمية لا تصدر إلّا عن نزعة تلك الثقافة الدوغمائيّة ودوافعها البراجماتيّة الضّيقة، ذلك النّمط الذي تربّت وتتربّى عليه أجيال من الذّائقات في مدارسنا وجامعاتنا وأوساطنا الثّقافيّة. وبالمعنى الأكثر خصوصيّة للكلمة إنّنا لا نتوفّر إلّا نادراً على ثقافات نوعيّة من شأنها اِعادة فحص الشّعر فحصاً نقديّاً معرفيّاً - جماليّاً، بسبب من ذلك الخضوع التربويّ والثقافيّ الطويل لثقافة الأحاديّة الشموليّة المركزيّة، وما التّغيرات التي تطرأ على مناهجنا الدراسيّة من وقت لآخر، إلّا تغيرات قشريّة آنيّة هي الأخرى يمليها المُتغيّر الأيديولوجيّ سياسيّاً وثقافيّاً واعلاميّاً، لا المتغيّر الاِبداعيّ.هنا سيلعب الشّاعر دور العارف والرائي الذي سيظلّ ينقذ الشعريّة عبر اكتشاف أشكال أو طُرق اداءٍ تعبيريّة جديدة، وأفكار مبتكَرةٍ على الدّوام، وكلّما أوغل الشاعر في عملية الإنقاذ هذهسيزداد عَـرَضاً وعمقاً، في الوقت الذي يزداد فيه استقبالُه تجوهراً وتعصّباً. سرّ وجود الشّعر وتواصله يكمن أوّليّاً في عمقه لأنّ هذا العمق هو مقياس ابداعيّته، الذي إذا ما اهتزّ اهتزّت فاعليّته الإبداعيّة هذه، الشّعر عندنا لكي ينال اعجاب التلقّي يجب أن يُكتب وفقاً لمستوى ذائقة هذا التلقّي الثقافيّ والجماليّ، وهنا يكمن واحد من أسرار القطيعة وأهمّها ما بين شعر ينكتب باختلافه وبين واقع متلقّيه، وهذا هو أيضاً سبب محدوديّة المتفاعلين معه والمعجبين به. لا يكون أيّ شيء في العالم اشكاليّاً، أي مُقلِقاً ومحرِّضاً على التفكّر والتّدبّر إلّا قياساً بمقابلٍ يستقبل هذه الإشكاليّة فيعلنها ليثبِّـتها، وما هذا المقابل إلّا الناقد والقارئ العارفان، وهذان نفساهُما مستوياتٌ ثقافيّة وفَهميّة متباينةٌ عدّة ومختلفة. الشّعر حتى عندما يُعنى بالجوانب التاريخيّة والأسطورية والثقافيّة والنفسيّة واليوميّة، فهو لا يؤلّف بينها، وإنما يحرثها ويقلّب فيها نظره الجماليّ والمعرفيّ مليّا؛ً مُعيداً صياغتها صياغة تحويليّةً، كأنّه يخلّقها من جديد في كلّ مرّة.
المتلقّي (لا القارئ) من يدفع دائماً باتّجاه نفسه، لذلك يتطلّب شعراً خفيف ظلّ، في الوقت الذي يتطلّب فيه الشّعر الاِشكاليّ نزوعاً ضارياً دائباً للتنقيب في دخائل الإنسان والعالم والأشياء والثقافات. يظلّ هذا المتلقّي المسترخي بعيداً عن هذه الضّراوة الشعريّة لأنّه خائف منها، وأيضاً ليحمي ماء وجه جهله بها. فعندما يكون المحمول الدّلاليّ للنّص الشعريّ ثريّاً، أي فائضاً عن الحاجة المقرّرة لهذا المتلقّي يحدث ذلك الانقطاع مع التّواصل النّمطيّ، فينشأ نوع من التّعثـر والمشقّة نتيجةً للنقص في أدوات تسلّم الخطاب، إذ إنّ لكلّ نصّ خطابه الخاصّ الفائضَ عن اِمكانيّة تداوله، في الوقت الذي فيه لهذا المتلقّي نظامه الخاصُّ الذي لا يؤهّله للإحاطة بهذا الفائض. بداهةً كلّ كتابة ثريّة تتطلّب قراءة بالمستوى نفسه من هذا الثّراء إن لم يكن أوسع منه مدىً وأكثر عمقاً، من هنا القارئ العارف ناقد حقيقيّ بطبيعته، بينما ((القارئ الرديء لا يقرأ سوى نفسه)) كما يفهم نيتشه. لانزال بصدد شعر منحاز إلى اختلافه وتجدّده يعمل على مواجهة كسل العالم، فتظلّ تتّسع من حوله دائرةُ العزلة/ وآخرَ يظلّ متواطئاً مع هذا الكسل.
( حازم القرطاجنيّ، منهاج البلغاء وسراج الأدباء، تحقيق محمد الحبيب بن الخوجه، دار الغرب الإسلاميّ، بيروت، 1986، 28.(2) عبد القاهر الجرجانيّ، دلائل الاعجاز، تحقيق السيّد محمد رشيد رضا، دار المطبوعات العربية للطباعة والنشر والتوزيع، 423.(3) ابن رشيق، العمدة، تحقيق محمد محيي الدين،
ج1، 117.