نهى الصراف
أكثر وحدة بالعالم تؤمن بالقضاء والقدر، حجية طيوبة جيران بيت المرحوم غفوري عبد الحسين بمحلة البجاري بالبصرة.
الناس التي تعرف طيوبة من سنين أو حتى من ساعات يستطيعون بسهولة تمييز متلازمتها اللفظية المفضلة التي ترددها صباحاً ومساءً، حرباً وسلماً، أثناء تصفيقها بحماس في الأعراس أو أثناء وقفات الهدوء المفتعلة التي تتخلل جولات لطمها في المآتم! «يمة، كلمن يروح بيومه»هاي الـ «كلمن يروح بيومه»، شيعت الكثيرين من أهالي منطقة البجاري والمناطق المجاورة في مدينة البصرة التي شهدت بيئتها المفعمة بجمال البشر وطيبتهم
العجيبة.
أحداث داكنة استمرت لعقود أربعة وأكثر، ما زال الناس يموتون فيها ولا تفارق وجوههم ابتسامة رضا وتسامح، بسبب كلمات السيدة الستينية.لم تنجب طيبة لا الأولاد ولا البنات.. ويبدو أنها لم تكن بانتظارهم طيلة أيام حياتها التي عاشتها بالعرض فقط وليس بالطول، إذ إنها حياة.. كانت تستقر على وتيرة أفقية واحدة، تعيشها يوماً بيوم من دون خطط واضحة للمستقبل، بعد أن حجبت عنها حقوقها بأمر «النهوة» من ابن عمها عمران الذي حلف يميناً غليظة بأن لا يتزوجها أحد غيره.
رفضت بشجاعة نادرة الزواج من عمران.
فعلاوة عن تقززها من بشرة وجهه المشوهة بسبب مرض جلدي أصابه في طفولته، كان ابن العم متزوجاً من ثلاث سيدات، وقد ترك حقه الرابع شاغراً بانتظار أن تشغله ابنة عمه رائعة الجمال، لكنه انتظر طويلاً ولم يحصل على مراده.لم يستطع خُطّاب طيوبة أيضاً الصمود طويلاً، فقد فرّوا الواحد تلو الآخر خوفاً من انتقام عمران، وهكذا قضت الجميلة معظم سنوات حياتها في منزل زوجة ابن شقيقتها التي ترمَّلت مبكراً وفقدت زوجها في الحرب العراقية – الإيرانية، وبينما عاشت السيدتان عيشة متقشفة بسبب ضيق ذات اليد، إلا أن ضحكات طيوبة كانت تملأ الأطباق الفارغة في عشاء الأسرة الفقيرة وحلاوة حديثها كانت تحلية مناسبة في ليالي الشتاء
الطويلة.
كان إيمان العجوز يتعاظم يوماً بعد يوم حتى أن الأثر الذي تتركه تعويذتها «كلمن يروح بيومه»، صار مثل مزهرية طين حري مدفونة في باطن الأرض تتلمسها يد السيدة الكبيرة في السن كل يوم لتطمئن على وجودها ثم تهيل عليها الطين ثانية «كلمن يروح بيومه» أبو فلاح النجار مات
بالقصف.
سليم المسيحي مات من القهر حزناً على زوجته القابلة المأذونة التي راحت في حادث سيارة، أما غفوري معلم التاريخ فقد توفي في السجن قبل موعد إعدامه بأيام قليلة.. ربما تآكلت روحه بسبب التعذيب وقلّة الطعام.. مات من خيبة الأمل بعد أن عرف مصادفة بأن كاتب التقرير الذي أوصله إلى السجن الرهيب، لم يكن سوى أحد تلاميذه الذي يكرهه بسبب رسوبه في الامتحان، الانتقام كان هو الحل المناسب من وجهة نظر الرفيق جاسب والد التلميذ
الكسلان.
تسمع طيوبة الكثير من قصص الموت هذه، وفي كل مرة تردد بعد تفكير قصير: «آآآآه.. كلمن يروح بيومه».
لم تذهب طيوبة بيومها كما هو متوقع، فبعد أن انتهت من حمامها في إحدى مساءات الخريف بمساعدة الأرملة رفيقتها في السكن والشقاء، تعطرت بقطرات من «شيشة» مسكها المفضل، ثم لمّعت خاتمها الشذر بطرف «شيلتها»، وهي تنظر إلى نفسها بإعجاب شديد في مرآة غرفة النوم
المفطورة.
تبادلت المرأتان ابتسامات قصيرة كانت مقدمة لكلمات طيوبة التي اعتادت أن تطلقها في كل مرة تخرج بها من الحمام بخدود موردة ونظرات
لامعة.
وهي تتطلع إلى سماء الغرفة وتقول بحسرة:» آآآآه لو كان اليوم يوم عرسي!».
فتجيبها الأرملة: «عمة.. عمرج طويل حبوبة، الله لا يوفقه لعمران ويجعل قبره سجن وظلمة يا رب».
-لا تدعين عليه بنتي، راح لدار حقه،
-الله لا يسامحه.
-أنا سامحته، تزوج بت أبو جعفر لأن زنكَينة.. كسر كَلبي، بس الفلوس آآآخ الفلوس..
-تحبيه!
-جنت أحبه قبل ما يتزوج اول مرة.
– وهسة؟
-ما أذكر بس وجهه المفطر.. كلمن يروح بيومه يمه.. روحي، روحي شوفي
الجهال..
لفّت حجية طيوبة رأسها ونامت ليلتها الأخيرة، وهي تتمعن بخيال بنت أبو جعفر.. التي وقفت كالحجر في “زردومها” أربعين عاماً.