ميادة سفر
وكأنها “فيلم رعب” لا تجوز مشاهدته ومعرفة تفاصيله!.. هكذا ينظر البعض إلى العولمة!.. ترتعد وترجف فرائصهم لمجرد ذكرها، فيكون الهروب من مواجهتها هو الحل الأنسب!.. أما الهروب فيعني البقاء داخل القمقم، خوفاً من أنْ تجرفهم وتجرف مجتمعاتهم بالمعنى الاقتصادي والثقافي والاجتماعي!..
وإنْ كنا لا نجانب الصواب بالقول إنَّ هؤلاء يخشون على ماضيهم أكثر من خشيتهم على مستقبلهم “لا سيما في بعض البلدان العربية وغير العربية”، التي تخشى أنْ تزعزع العولمة أصنام العادات والتقاليد والأعراف والقيود التي فرضت عليها وارتضت
بها.
أولئك الذين يعيشون في الخوف والرعب هم بلا شك “المنفعلون” في العولمة وليسوا “الفاعلين”، على اعتبار أنّ في العولمة هناك فاعلاً ومنفعلاً، والخوف منها هو ما يجعل من بعض الدول أطرافاً منفعلة، لا حول لها ولا قوة.
هنا يحق لنا السؤال والتساؤل: هل العولمة، كمصطلح وكمعنى ولدت ووجدت في هذا العصر فقط ولا وجود لها في الماضي، أم إنَّ ثمة ملامح لعولمة قديمة ظهرت في الماضي بأشكال مختلفة عما هي عليه اليوم؟.
الجواب: بكل تأكيد عولمة اليوم ليست مظهراً طارئاً أو جديداً!.. إذ يكفي استعراض حضارات ودول وامبراطوريات مرَّتْ في تاريخ البشريَّة منذ آلاف السنين، وكان لها عولمتها، ولكنْ بأدوات ووسائل تختلف عن عولمة اليوم المعاصرة.. ما قام به الفينيقيون عندما حولوا البحر المتوسط إلى بحيرة فينيقية، من خلال تجاراتهم، ونشروا ثقافتهم في سواحل أوروبا وأفريقيا، أليست عولمة ولكن.. بأدوات ووسائل مختلفة؟!.
هذا فضلاً عن الرومان الذين امتدت إمبراطورتيهم باتجاه الشرق وكل أوروبا، وتركوا بصماتهم الثقافية والعمرانية.. كذلك الأمر فإنَّ ما قدمه العرب من الهند إلى إسبانيا عبر “فتوحاتهم” حينما نشروا ثقافتهم وعلومهم ومعارفهم التي استفادت منها كل الشعوب التي وصلوا إليها، ألم تكن عولمة بمفهوم مغاير؟!. ينسحب هذا على ما فعله السومريون والبابليون والآشوريون الذين امتدت سلطتهم لتشمل مساحات جغرافية واسعة، وحطت علومهم ومعارفهم في غير بلد من شرق المتوسط لتصل إلى أجزاء واسعة مما كان يُعرف بالشرق الأدنى القديم.. ألم تكن حضارتهم التي لم تزل ملامحها شاهدة، شكلاً من عولمة
قديمة؟!.
هذه مقاربة بسيطة تكفي للقول إنَّ ما يحدث اليوم مما يُطلق عليه اسم “عولمة”، ليس بالطارئ ولا المستجد، وإنما يراه البشر جديداً لأنّ أدواته باتت أسرع وأكثر سطوة واستلاباً.. أكثر قدرة على تجاوز الحدود السياسية والثقافية والاقتصادية وحتى الاجتماعية، دونما الحاجة إلى حروب وجيوش جرارة!. الأمر تتكفل به ثورة الاتصالات والمعلومات!. هذا يعني أنَّ “بعبع العولمة” المعاصر ما هو إلا تكرار وربما استمرار للماضي لكن بصيغة جديدة و”لوك جديد”.. أدواته جهاز كمبيوتر وتاب وموبايل يحمل شريحة لا تتجاوز سماكتها المليمتر، ومساحتها أقل من سنتيمتر مربع، تمكّن مستخدمها من معرفة ما يحدث في أقاصي الأرض بكبسة زر واحدة!.. ذلك هو الاختلاف فقط بين عولمة الماضي وعولمة الحاضر.
من هذه الزاوية، لا يبدو غريباً أن الأمم والمجتمعات الحيوية والقوية هي الفاعلة والمؤثرة، وهي التي تنشر ثقافتها وأفكارها تحت عنوان العولمة، في حين إنَّ المجتمعات الهشة الضعيفة المتهالكة، هي المنفعلة سواء رضيت أم لم ترض، فإنْ هي وافقت ورضيت بهذا الواقع لا بُدّ ستنفعل وتتلقى كل ما يرسل إليها بامتنان أو على مضض، وإنْ رفضت فالحل في أنْ تقبع بين جدران أربعة، تحجب نفسها عن العالم وعما يحدث فيه، وتتحول إلى مجتمعات متخشبة ومتخلفة عن اللحاق بركب الحداثة والمعاصرة.
تتفاوت الآراء حول العولمة بين موافق وآخر رافض بشدة، لكن راهناً، لا يمكن لأيٍ كان أنْ يعيش بمعزلٍ عن العالم منزوياً وحيداً، والمطلوب أنْ نكون أكثر تأثيراً في ما يدور حولنا من أحداثٍ بدل أنْ نكون نحن الحدث، وهذا ما ينطبق على المجتمعات التي لم تعد قادرة على الإسهام في أكثر من عبارات الرفض حيناً والاستنكار حيناً آخر، تاركة للآخرين رسم وتشكيل حاضرها ومستقبلها!.