من يوميات نافذتي الهولندية، والتي أغنتني بما لايتصوره العقل من ثرائها في الرؤية والنفاذ إلى الأشياء وهي تتحرك في فضاء الشارع والأضواء، هو ما يحدث لي كل يوم وأنا أجلس لطاولتي بين السابعة والسابعة والنصف، أن تأتي تسع بجعات بعدما كن اثنتي عشرة بجعة، وتقف قبالة نافذتي وتنظر إلي وكأنها تتأمل طعمًا أو سلامًا أومشاركة ما، وكالعادة أقف متأملًا قبالة السرب الهادئ، الثقيل الخطو، وأحييه وكأنهن جزءٌ من صيد نافذتي الذي يتكرر كل يوم وهو يحثني على الحضور والكتابة والرؤية، فالنافذة شبكة من شِباك الصيد بالرؤية، وإلا لما تمكنت من حضور هذا الشعر المتحرك؛ بين ضفتي نهريجري بجواري، وبجعات سمينات، ونافذة في الطابق الثاني، ورجل عجوز يتأمل مشهدا يتغير كل يوم مع أنه نفسه ببجعاته التسع، وبنافذتي وبوقفتي متأملا ما أرى، وبمارة يقفون وهم يتأملون ما يحدث من حوار بصري، بيني والبجعات.
بعد نصف ساعة يذهبن باتجاه الضفة الأخرى من الشارع، هناك حيث ملاعب الرياضة، ومياه جداول كثيرة وأبنية أكثر حميمية مع الأرض، يذهب السرب وهو يقطع الطريق بصفين متوازيين وكأنهن في تمرين رياضيصباحي، بينما تقف كبيرتهن حارسًا مراقبا وسط الطريق، إيذانا بطقوس حماية البجعات، وهن يعبرن الشارع متهاديات حالمات، كإعلان عن أن تكوينًا بصريًا ما يتشكل من تلاقي رؤيتي والأشجار وعربات المارة وطقوس ألعاب الصبية الذاهبين إلى المدرسة. كل يوم أمر بهذا المشهد الشعري، كجزء من بنية المدينة المائية، وكطقس من طقوس طبيعة تشترك في عزفه كل مكونات الطريق. طقس من الصعوبة أن تحتويه بنظرة أو تأمل أو كتابة أو صور، ففي الغد ثمة كلمات أخرى تولد في المشهد نفسه، لا تشبه كلمات اليوم أو الأمس، وهكذا تتحرك الكلمات إلى شيء آخر حتى لو كتبت نفسها كل يوم. تبقى الحركة قائمة في الكلمات المجهولة، التي تؤلفها حركة البجعات، مادم ثمة من يصنع تشكيلات بصرية من مكوناتفضاء الطريق.
من يكوّن المشهد الشعري غير ثلاثة أشياء:الماء، البجعات، والفراغ، وثمة كائن ممسوس يقف وراء نافذة يتأمل البجعات البيض وهن يصنعن حياتهن الصغيرة؛ كي يكتب شيئًا عن مشي بطيء وبحث عن حبيبات طعام. وترقب، أشعر وأنا أتأمل هذا المشهد باختلاط الماء والبجعات والفراغ، إن تكوينا لعجينة سماوية تتشكل مع كل صباح، هذا البناء الغامض وحده من يشدني ليوم غد وأنا أنهض مبكرًا لأرى كيف يشكل المشهد اليومي الكلمات.
في الرحلة الى الضفة الأخرى من الشارع، أشعر بوجود عالم لم نكتشفه نحن، وإلا ما هذا الاصرار لأن تذهب البجعات إليه كل يوم، بعد السابعة والنصف، وكأن شيئًا ما يتشكل هناك عبر عجينة الصور؟. ثمة ماء بهيج وماء جوهر، وماء حلم، وماء خزائن، وماءعلاج، وماء كفن، وماء صلب، وماء لين، وماء حب، وماء ندى،وماء طقس، لا أدري كيف تكون احلام البجعات، وإلا لماذا هذه الرحلة إليه لولا هذه التكوينات الغامضة المبهمة التي تشد البجعات وهن يمارسن طقوسهن الكونية بهدوء.
الشيء اللافت للعيان أنهن لايعدن إلى مكامنهن القريبة من نافذتي بعد رحلة العبور إلى الضفة الأخرى، وكأنهن لايرغبن العيش في المشهد نفسه مرتين في اليوم الواحد، ففي طريق عودتهن إلى مكمنهن يسلكن نفقًا مائيًا يوصل بين جانبي الشارع، وكأن الطريق الذي أُنشئ فوق النهر جسرًا، يمررن من تحته متخفيات من ضوء النهار، وصخب المارة والعربات والعاب الأطفال.
في الليل، في صحوات الفجر، أشعر أن صوت البجعات الصاخب يطرق نافذتي، عندما أكون في وهج أحلامي عن الطيران الأرضي. في الساعات اللامتوقفة، في الآمال الشريدة من حضن البلاد، في نشدان الصحة من أمراض لا تعرف مصدرها، في البحث عن مفردات لأنشودة الرؤية، في السعي بأن تطري شيباتك الفضيات بنغمة امرأة في السنة الجديدة،لا تجد ملاذًا غير أن تنتظر صباح الغد لتطعمك البجعات رحيق هذه الرؤية الهاربة من الحب. كم نحن سعداء في رؤية مشهد لا يخلقه إنسان يمنُّ عليك بأنه ولي أمرك في هذه الدنيا وعليك أن تقدسه وهو أقذر مايكون.