البنيويّة والرواية العربيّة

ثقافة 2021/01/08
...

  د. نادية هناوي 
 
تحولت البنيوية تدريجياً من منهجية في دراسة النص الأدبي إلى فلسفة في الإنسان والكون تتماشى مع الفلسفات ما بعد الحداثية. وأهم ما ميزها فلسفياً محاربتها للتجريب والتاريخ، وانبهارها بالإمكانيات الخصبة في فكرة البناء متحررة من الاستغلاق وبانفتاحية عالية تخلو من الجمود، متجهة للتقارب مع غيرها من الفلسفات التي ظهرت آثارها في الرواية الغربية قبل أن تتوضح في الرواية العربية. 
وبحسب المصادر فإنه (على الرغم من أنّ البنيوية في نقدنا الأدبي العربي لم تكن أكثر من منهج إجرائي لا غير؛ فإن ما بعد البنيوية تركت انعكاسات فكرية مهمة لا على نقدنا المعاصر والراهن حسب) بل على الرواية العربية المعاصرة ولم يعد سردنا الروائي ممارسة أدبية أو عملا كتابيا ذا رسالة تثقيفية؛ وإنما هو فاعلية فكرية يعبر الكاتب من خلال السرد عما لا يستطيع التعبير عنه تقريرياً. وأسهمت الفلسفة في جعل هذا السرد وسيلة بها يكشف الكاتب عما هو مسكوت عنه او مخبأ مفككة الصلد من المسلمات ومشتتة المتراص أو المركزي من الثوابت. 
وكلما كان الكاتب الروائي مستوعباً الفكر الفلسفي متمتعاً بروح ناقدة، بدت الملامح الفلسفية والأبعاد الفكرية واضحة على روايته.. منها ما تركته الفلسفة النسوية بطروحاتها النظرية المتغايرة أو المتآزرة من آثار انفتاحية على الرواية في مناصرة الهامش النسوي العربي، انطلاقا من أن دور المرأة ليس اقتصاديا حسب، بل بأدوار فكرية لا تختلف في أهميتها عن أدوار الرجل.
وبالرغم من أن واقعنا العربي لم يشهد ظهور فيلسوفات ذوات نظر خاص، لكن المرأة المثقفة استطاعت أن ترتقي في بعض الأحيان إلى دور المفكرة بعقلية ناقدة كنازك الملائكة وفاطمة المرنيسي وآسيا جبار. ووجود المرأة المفكرة يعني حضور الفلسفة ببعدها النسوي، ولقد تساءلت جوديت بتلر: هل يمكن أن تكون هناك فيلسوفة نسوية إذا شككنا أصلاً في وجود المرأة المفكرة، علما أن في الغرب نفسه لم يكن دخول المرأة إلى المنطق يسيراً كدخولها إلى الفلسفة. 
ومن انعكاسات الفلسفة النسوية على الرواية العربية، ما نجده من سطور فكرية تبثها الساردة في تضاعيف السرد كمداخلات هنا أو هناك وقد تجعلها على لسان إحدى الشخصيات النسوية كما في رواية (السقوط في الشمس) لسناء شعلان التي فيها تعيش البطلة حالة من التشظي ما بين ذاتها والآخر الذي تراه تارة مضطهدا لها ومستغلا لضعفها متجبرا عليها، وتراه تارة أخرى أنيسا وعطوفا. وهذا ما يدفعها إلى التفكر المونولوجي الداخلي الذي به تعبر عن حلم بعيد فيه الآخر مثال مستحيل التحقق، فتناجيه غائبا” أحمد الله بسري لأنك لا تستطيع قراءة أفكاري وتلمس مشاعري فعشقي هو سري الأعظم الذي أتلذذ بحفظه أنا امرأة ليست بالجبانة لكن عشقي يربك شجاعتي ويؤثر صراحتي المجنونة”ص29
وقد يفضي التأثر بالفلسفة النسوية إلى الإحساس بالقدرة على النقد واتخاذ موقف مناسب إزاء الواقع المعيش، كما هو حال الساردة المثقفة في رواية (أنثى غجرية) لرسول محمد رسول التي كانت قد قرأت كتبا فلسفية كثيرة باحثة في كل ذلك عما يعزز قدرتها على مواجهة عوقها الأنثوي. واستيعابها للفلسفة النسوية يجعلها قادرة أكثر على اختيار المفاهيم ومناقشتها. 
وبحسب ما ذكرت سابقا في مقالة عن المغالبة الجندرية “وقد يغدو التفكر النسوي عبارة عن هذيانات واستدلالات تظهر أن الذكورية غير لائقة بالأنوثة، كما في رواية (بريد الليل) لهدى بركات التي فيها يكون الليل هو الحد الفاصل، الذي به تتحقق رغبة الأنثى في الانتقام ورغبة الذكر في الاستحواذ. وكثير من الأفكار النسوية تبث في هذه الرواية على شكل عبارات مبتسرة”. 
ولا غرابة أن نجد في الرواية الواقعية تفكراً يخرج بالمرأة عن مواضعات الجنس والجسد والخطيئة والشهوة، ناظراً لها بإيجابية تدحض بعض المسلمات الاجتماعية، لاسيما حين يكون المفكر في المرأة هو الرجل. من ذلك انتصار السارد في رواية (عالم بلا خرائط) للمرأة بوصفها هي الأصل “المرأة هي بداية الخليقة هي كل المتعة وهي أصل الأشياء قبل آدم من غير الضلوع والطين هي البياض المشرب بحمرة خفيفة النعومة الزلقة الرطبة الاشتعال القاتل الصوت الصغير المقتول من غير الصوت”ص78 وهذا التصور بالطبع يعاكس ما تنص عليه اللوائح والمدونات الذكورية.
والمساواة بين الرجل والمرأة هو ما يسعى إليه بطل رواية (حريق الأخيلة) ناظرا إلى المرأة نظرة واقعية فلا هي إلهة أو جارية أو موضوع وفيها البطل مثقف يقرأ لبرنادشو وهيجل وطاغور وأرسطو وإسماعيل أدهم وأفلاطون لكنه متأزم تتضاد ممارساته مع مبادئه، يرفض فلسفة هذا وذاك ببوهيمية خاصة. وتكاد هذه الصورة تتكرر في أبطال روايات أدوار الخراط، ففي روايته (الزمن الآخر) يرفض البطل المثقف الفلسفات العقلانية والثورية وحتمية التاريخ والنسبية حول العقل والحقيقة الكلية والقوانين الكلية. 
من انعكاسات النقد الفلسفي بعد البنيوي التفكر في المكان اتساعا وتناهيا. وبالتأمل الذي فيه يصبح المكان لا متناهيا في الكبر بالمفهوم الباشلاري، يتغشى بصر بطلة رواية (سيدات زحل) للطفية الدليمي ببصيرة خاصة بها تتلمس طريقها في العتمة وقد غيّرت الأماكن مواقعها.
ومن انعكاسات النقد الفلسفي بعد البنيوي أيضا التأزم الفكري بمفاهيم سياسية واجتماعية تتصل بالاستعمارية والرأسمالية والماركسية والإنسانية الجديدة والمادية والآلة ورأس المال ونظريات الإرهاب الفردي والجماعي والثورية في حركة الشعب والمشاعية في حركة الأفراد. 
ولا شك أن طروحات ما بعد البنيوية اسهمت في زعزعة دور العقل، متمردة على الفلسفات العقلية التي لم تستطع إحداث التغيير المنشود، أو ما سماه أيان واط تأثيث الحجرة الفارغة للعقل سواء برفض الكليات أو بالإلحاح على الجزئيات.